قضى ابن الفارض نحو 15 سنة من عمره في عزلة عن الناس بعد أن سافر لمكة لتأدية فريضة الحج، ثم قرر الاعتزال في وادٍ بعيد عن الناس، وكانت تلك العزلة هي المنبع الذي فاضت منه معظم أشعاره، حيث أتاحت له تأمل أحوال نفسه والغوص في الخيال البعيد وأسرار الملكوت. وبعد أن أنهى عزلته،[2]
عاد إلى مصر بعد خمسة عشر عاماً، فأقام بقاعة الخطابة بالجامع الأزهر، فقصده الناس بالزيارة، ومعهم بعض كبار الدولة مما أجله في أعين العامة والخاصة، يقول ابن حجر: «كان له صورة كبيرة عند الناس» ولما رأى إقبال الناس عليه واستعدادهم لتقبل أحواله وأقواله بلا ميزان، تخلى عما كان فيه من زهد وتقشف، فصار يلبس الملابس الجميلة ويعتني بهيئته، ويحب مشاهدة البحر في الأصيل، بل وكان له جوار بالبهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة فيراقصهن ويتواجد[3]
لم أخل من حسد عليك فلا تضع
سهري بتشنيع الخيال المرجف
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى
جفني؟ وكيف يزور من لم يعرف
أعد ذكر من أهوى ولو بملام
فإن أحاديث الحبيب مدامي
كأن عذولي بالوصال مبشري
و إن كنت لم أطمع برد سلامي
طريح جوى صب جريح جوارح
قتيل جفون بالدوام دوامي
قـلـبي يُـحدثُني بأنك مُـتلفي
روحـي فِداك ، عرَفت أم لم تعرفِ
لم أقضِ حق هواكَ إن كنتَ الذي
لـم أقـض فيه أسى ومثلي مَن يفي
مـا لي سوى روحي وباذلُ نفسه
فـي حب من يهواه ليس بمسرفِ
فـلئن رضـيتَ بها فقد أسعفتني
يـا خيبة المسعى إذا لم تسعفِ !
يـامانعي طـيب المنام ومانحي
ثـوب الـسقام بـه ووَجدي المتلفِ
عـطفا على رمَقي وما أبقيتَ لي
من جسمي المضنى وقـلبي المُدنفِِ
فـالوجد بـاقٍ والوصال مماطلي
والـصبر فانٍ والـلقاء مسوِّفي
لم أخلُ من حسدٍ عليكَ فلا تُضِع
سهَري بتشنيع الخيالِ المُرجِفِ
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى
جَـفني وكيف يزور من لم يعرفِ
لا غـرو إن شحّت بغمضٍ جفونها
عـيني وسـحّت بالدموع الذرّفِ
وبما جرى في موقف التوديع من
ألـم النوى شاهدتُ هول الموقفِ
إن لم يكن وصـلٌ لديكَ فعِد به
أملي وماطل إن وعدتَ ولا تفي
فـالمطلُ منك لديَّ إن عزَّ الوفا
يـخلو كـوصلٍ من حبيبٍ مسعفِ
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً
سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلق الكَرمُ
لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يديرها
هِلالٌ، وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجمُ
ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانها
ولو لا سناها ما تصوَّرها الوهمُ
ولم يُبْقِ مِنها الدَّهْرُ غيرَ حُشاشَة ٍ
كأنَّ خَفاها، في صُدورِ النُّهى كَتْمُ