ولد في الشام سنة 701 هـ كما ذكر ذلك في كتابه البداية والنهاية.[11] وكان مولده بقرية «مجدل» من أعمال بصرى من منطقة سهل حوران -درعا حالياً- في جنوب دمشق.
طلبه للعلم
انتقل إلى دمشق سنة 706 هـ في الخامسة من عمره، وتفقه على الشيخ إبراهيم الفزازي الشهير بـابن الفركاح وسمع بدمشق من عيسى بن المطعم ومن أحمد بن أبي طالب وبالحجار ومن القاسم بن عساكر وابن الشيرازي واسحاق بن الآمدى ومحمد بن زراد ولازم الشيخ جمال يوسف بن الزكي المزي صاحب تهذيب الكمال وأطراف الكتب الستة وبه انتفع وتخرج وتزوج بابنته.
قرأ على شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا ولازمه وأحبه وانتفع بعلومه وعلى الشيخ الحافظ بن قايماز وأجاز له من مصر أبو موسى القرافي والحسيني وأبو الفتح الدبوسي وعلي بن عمر الواني ويوسف الختي وغير واحد. وقيل إنه تعلّم العبرية.
جاء في كتاب أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم تحت عنوان: (أكابر مفسري الأمة من الأشاعرة والماتريدية) ما نصه: «الإمام الحافظ المفسر أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى، صاحب التفسير العظيموالبداية والنهاية وغيرها، فقد نُقِلَ عنه أنه صَـرَّحَ بأنه أشعري كما في الدرر الكامنة 1/58، والدارس في تاريخ المدارس للنعيمي 2/89، أضف إلى ذلك أنه ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية التي كان شرط واقفها أن لا يلي مشيختها إلا أشعري، وزدْ عليه ما في تفسيره من التنزيه والتقديس والتشديد على من يقول بظواهر المتشابه كما مرَّ من قوله عند تفسيره لقوله من سورة الأعراف (ثم استوى على العرش) (تفسيره 2/220) إلى غير ذلك من الأمثلة الظاهرة الجلية في كونه من أهل السنة الأشاعرة».[13][14]
ترى السلفية أنه سلفي الاعتقاد في غالب بل كل مؤلفاته، فكان يصرح بها، ولعل المتتبع البسيط لتفسيره (تفسير القرآن العظيم) يرى بوضح وبدون أدنى لبس أنه على عقيدة شيخه ابن تيمية. وكذلك ما كتبه في أول كتابه الجليل «البداية والنهاية» عن علو الله على عرشه وإثبات صفة العلو والفوقية لله العلي القدير.
أما ما أثير حول كونه أشعريا، لقبوله مشيخة دار الحديث الأشرفية التي شرط وقفها أن يكون المدرس فيها أشعريا، فهو شرط غير ملزم، وقد ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية علماء سلفيون من قبله: مثل الحافظ جمال الدين المزي والحافظ أبو عمرو بن الصلاح.
أما ما رواه الحافظ ابن حجر فهي كما قال نادرة وقعت بينهما، ولم تكن في مقام البيان والإقرار. ولا مانع من كون هذه الكلمة على فرض صحتها أنها خرجت منه على سبيل الفكاهة فهذا الحافظ ابن حجر يقول عنه في الدرر الكامنة: (وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه، وامتحن بسببه. وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة. سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته). فنجد الحافظ ابن حجر يقول أنه (حسن المفاكهة). والمقصود بقوله «لأنني أشعري» هو ما وضحه إبراهيم بن ابن القيم حين قال له «لو كان من رأسك إلى قدمك شعر»، أي كثرة الشعر. وهذا من باب المعاريض، وهو جائز في المفاكهة والتندر بلا ريب. فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله الرجل في غزوة بدر من أين أنت قال أنا من (ماء). وهذا ما يسمى تعريض.
ومما يقوي رأي السلفية هو ما قاله ابن كثير بنفسه عن رجوع الأشعري عن ما قاله في العقيدة.[17] فلو كان ابن كثير أشعرياً فهو إذاً على العقيدة التي يعتقد أن الأشعري استقر عليها آخر عمره.
كما يقوي ذلك شدة تأثره بـابن تيمية وتبجيله له وانتصاره له حتى توفي ودفن بجواره.[18]
وقد خالف ابن كثير أصول الأشاعرة وردهم في كثير من المواضع، وكان مساندا لشيخه الإمام ابن تيمية وبالذات في مسائل الاعتقاد، فالذهاب إلى أنه أشعري لحادثة قبوله الوظيفة، فهو يعلم أنه لا يلزم صاحب الوقف هذا الشرط في الوقف، بل إن ابن كثير نشر عقيدة السلف وخالف الأشاعرة في دروسه، وعامة تلامذته من السلفية، وأن مرد الكلام كله أن صاحب الكلام أعني السبكي، كان عدوا لدودا لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو أحد أهم الأسباب في سجن ابن تيمية، وكان ذو نفوذ وقوة عند حاكم البلاد، فسطر في كتابه ما أراد كونه أشعريا، وكان الكل من طلاب شيخ الإسلام كابن كثير وأبن القيم وغيرهم، يدركون أن مواجهة السبكي تعني سجن القلعة، وحدث هذا بالفعل للإمام ابن القيم فقد سجن هو الآخر، ولكن ابن كثير اتقى وابتعد عن مواجهة السبكي. فلا يصح الاستدلال بأدلة الغريم والقرائن وهذا معلوم عند أهل الأصول والعلم.
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي المتوفى سنة 728هـ، صحبه ابن كثير وتعلَّم منه وتفقه عليه وأحبه، قال ابن حجر: «وأخذ عن ابن تيمية ففُتن بحبه وامتُحن بسببه». وقال ابن العماد: «وصحب ابن تيمية –يعني ابن كثير– وكانت له خصوصية بابن تيمية ومناضلة عنه، وإتباع له في كثير من آرائه، وكان يُفتي برأيه في الطلاق، وامتُحن بسبب ذلك وأُوذي».
الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد البرزالي الشافعي المتوفى سنة 739هـ مؤرخ الشام، تكرَّر ذكر ابن كثير له بشيخنا، واعتبر كتابه البداية والنهاية ذيلًا لتاريخ البرزالي، وقال: «هذا آخر ما أرّخه شيخنا الحافظ البرزالي في كتابه الذي ذيَّل به على تاريخ شهاب الدين أبي شامة، وقد ذيَّلت على تاريخه إلى زماننا هذا، وكان فراغي من الانتقاء من تاريخه في يوم الأربعاء 20 جمادى الآخرة من سنة751هـ».
الزركشي محمد بن بهادر بن عبدالله بدر الدين الزركشي الشافعي المتوفى سنة 794هـ، قال ابن حجر: «رحل إلى دمشق فأخذ عن ابن كثير الحديث، وقرأ عليه مختصره في علوم الحديث ومدحه ببيتين». شهاب الدين حجي بن أحمد بن حجي بن موسى بن أحمد شهاب الدين الشافعي المتوفى سنة 816هـ، وقد استفاد ابن حجي من شيخه ابن كثير وأثنى عليه، وقال: «ما اجتمعت به قط إلا استفدت منه ولازمته ست سنين».
مكانة ابن كثير العلميّة جعلت شيوخه ورجال عصره يثنون عليه ويعترفون بعلمه، ومن ثناء هؤلاء العلماء عليه:[19]
قال شمس الدين الذهبي: «الإمام المفتي المحدث البارع ثقة متفنن ومحدث متقن ومفسر نقَّاد». وقال أيضًا عنه: «له عناية بالرجال والمتون والفقه، خرَّج وألَّف وناظر، وصنَّف وفسَّر وتقدَّم».
قال ابنُ حبيبٍ: «إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنَّف، وأطرب الأسماع بالفتوى، وصنَّف وحدَّث وأفاد،وطارت فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير».
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: «الشيخ العلامة الحافظ عماد الدين ثقة المحدثين وعمدة المؤرخين وعلم المفسرين».
وقال الداوودي: «كان قدوة العلماء والحفاظ وعمدة أهل المعاني والألفاظ».
التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، المعروف بجامع المسانيد، جمع فيه كتابي شيخه المزيوالذهبي: (تهذيب الكمال، وميزان الاعتدال، وكتاب رد الهدى والسنن في أحاديث المسانيد والسنن).
الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث وهو اختصار لمقدمة ابن صلاح.
شرع في كتاب كبير للأحكام، ولم يكمله، وصل فيه إلى كتاب الحج.
وفاته
توفي إسماعيل بن كثير يوم الخميس 26 شعبان774 هـ في دمشق عن ثلاث وسبعين سنة. وكان قد فقد بصره في آخر حياته، وهو يؤلف «جامع المسانيد»، فأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، وفيه قال:«لازلت فيه في الليل والسراج ينونص حتى ذهب بصري معه». وقد ذكر ابن ناصر الدين أنه «كانت له جنازة حافلة مشهودة، ودفن بوصية منه في تربة شيخ الإسلام ابن تيمية بمقبرة الصوفية».
و لما مات رثاه بعض طلبته بقوله:[20]
^المقال تحت عنوان: "أبو ذر الهروي الحافظ المحدث المالكي أول من أدخل العقيدة الأشعرية للحرم المكي وأول من بثها في المغاربة"، عبد الله بن محمد بن الطاهر المدرس بمدرسة الإمام البخاري للتعليم العتيق بأكادير –منشور بمجلة "الفقه المالكي" (مجلة علمية متخصصة في تراث المذهب المالكي)- العدد: 11 -شتاء/2011م- ص: 167 وما بعدها.
^في كتاب "اتحاف السادة المتقين" 2:4 نقل المرتضى الزبيدي عن ابن كثير: قال ابن كثير: ذكروا للشيخ أبي الحسن الشعري ثلاثة أحوال:
أولها : حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
ثانيها : إثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الخبرية كالوجه والقدم والساق ونحو ذلك.
ثالثها : إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريًا على منوال السلف وهي طريقته في "الإبانة"التي صنفها آخراً.
^يقول الحافظ ابن كثير عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله : (سنة 712 :... ثم انتقل ليلتئذ إلى القصر وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة وخلع على الخطيب، وجلس في دار العدل يوم الإثنين، وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشري الشهر، وقدم صحبة السلطان الشَّيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية إلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وكانت غيبته عنها سبع سنين، ومع أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتى خرج خلق من النساء أيضاً لرؤيته...) [ البداية والنهاية 14 / 69 ]..
يقول الحافظ ابن كثير : (.. فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس في منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شدّ الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور... ثم قال مدافعاً عنه:.. والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذا الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا يخفى عليه خافية، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون) [ 14 / 128 - 129 ].
فكيف يكون ابن كثير أشعرياً وهو يقول عن ابن تيمية الكلام والدفاع السابق ؟ فإن هذا من أمحل المحال..!
ولو أردنا استقصاء كلمات الحافظ ابن كثير عن ابن تيمية (شيخنا) أو (الإمام) أو (العالم) أو (العلامة) أو (شيخ الإسلام) لطال بنا المقام.. ! والحر تكفيه الإشارة.. !
قال ابن كثير في الشيخ صفي الدين الهندي عند مناظرته لابن تيمية في اول المجالس الثلاثة:ولكن ساقيته لاطمت بحرا.(البداية والنهاية احداث سنة 705 جزء 14 صفحة 31)
وهو القائل في الصوفي علي البكري : وكان من من ينكر على شيخ الإسلام...إلى ان قال... وما مثاله الا مثال ساقية ضعيفة كدرة لاطمت بحرا عظيما صافيا, أو رملة أرادت زوال الجبل. وقد اضحك العقلاء عليه. (البداية والنهاية.احداث سنة724 جزء 14 صفحة 97).
وكذلك عندما ترجم للقاضي ابن الزملكاني الشافعي بعد ان أكثر من مدحه والثناء عليه وعندما أصبح الامر يتعلق بشيخه شيخ الإسلام قال في ابن الزملكاني: فقبضه هادم اللذات وحال بينه وبين سائر الشهوات والإرادات والأعمال بالنيات. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متوليا أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية. فدعا عليه؛ فلم يبلغ امله ومراده. (البداية والنهاية(صفحة 112 جزء 14 احداث سنة 727)
والكلام في ذلك كثير ويطول.
أوذي الامام ابن كثير بسبب تعلقه بشيخه ابن تيمية وعقيدته، وهذا مسطور في كتب التاريخ، فقد امتحن وسجن بسبب ذلك، وهذا دليل ان يقتفي أثر شيخه ابن تيمية، ولم يحد عنه. وظل على هذا التعظيم له حتى توفي ودفن بجواره رحمهما الله.
^ترجمة في كتاب البداية والنهاية لدار ابن الجوزي ومصدر الترجمة هو: ترجمة في تذكرة الحفاظ 4/1508 - وذيل تذكرة الحفاظ ص 57-59 - و الذيل على العبر 2/358 - والبداية والنهاية حوادث ووفيات سنة (703 هـ) - الدرر الكامنة 1/399 - طبقات المفسرين للداودي 1/110-112.
معلومات
^جاء في تذكرة الحفاظ: «وصحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكانت له به خصوصية، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأوذي.»