فمثلا قول القرآن:«اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» «3-سورة المائدة» يعتبر من القرآن المدني مع أن نزوله كان بعرفة في حجة الوداع. وهناك تعريفات أخرى لا تسلم من الاعتراضات، منها: أن المدني مانزل بالمدينة، والمكي مانزل بمكة، والسبب في ضعف هذا التعريف أن هناك آيات لم تنزل لا في مكة ولا في المدينة وإنما نزلت في أماكن أخرى كالحديبية مثلا وبدر وأحد وتبوك وغيرها.عدد السور المدنيه 28 سورة
السبيل إلى معرفته
ولا سبيل لمعرفة المكي والمدني من القرآن إلا عن طريق الروايات المنسوبة إلى الصحابة، لأنهم هم الذين عاصروا نزول القرآن، وعرفوا زمان نزوله وملابسات هذا النزول.
قال القاضي الباقلاني في الانتصار: «إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي في ذلك قول لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة».
أهمية معرفة السور المدنية والمكية
هناك أهمية في تحديد وقت نزول سور القرآن، يذكرها العلماء منها:[1]
تتوقف معرفة الآيات الناسخة والمنسوخة على معرفة ما نزل أولاً، قال النحاس وإنما نذكر ما أنزل بمكة لأن فيه أعظم الفائدة في الناسخ والمنسوخ، لأن الآية إذا كانت مكية، وكان فيها حكم، وكان في غيرها حكم غيره نزل بالمدينة، علم أن المدنية نسخت المكية.[2][3]
ساير نزول القرآن تاريخ الدعوة، وترتيب السور ترتيباً زمنياً يمكننا من تصور تأريخ السيرة تصورًا أكثر جلاء ووضوحاً، في ضوء الآيات القرآنية، والقرآن من هذه الناحية يعتبر المرجع الأصيل لدراسة السيرة النبوية.
إن تتبع السور المكية والسور المدنية والنظر في موضوعاتها وأسلوبها، يكشف عن المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة في مراحلها المختلفة، فكانت موضوعات السور المكية تتحدث عن قضية العقيدة خاصة، وتعددت صور عرضها، في أسلوب قوي مؤثر، لأنه كان يخاطب أناساً غلب عليهم الشرك وفساد العقيدة، فلما استقرت العقيدة الصحيحة في قلوب الجماعة المؤمنة، التي تكونت في المدينة، عندها أنزل الله تعالى الفرائض والحدود في أسلوب متمهل مترسل يناسب مخاطبة القلوب المؤمنة.[4]
قد تكون السورة مكية ما عدا آيات منها: مثل سورة الأعراف فإنها مكية، ما عدا قوله تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون}.[5]
قد تكون مدنية ما عدا آيات منها: مثل سورة الحج فإنها مدنية ما عدا أربع آيات منها تبتدئ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم(52)لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد(53)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم(54)وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيم(55)}.[6][7][8]
آيات مدنية في سور مكية
سورة المؤمنون مكية، واستثني منها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُون}[9]، إلى قوله: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُون}[10]
نجد أعلام الهدي من الصحابة والتابعين يضبطون منازل القرآن آية آية ضبطاً يحدد الزمان والمكان وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ التشريع، فنرى ابن مسعود (1)يقول: والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه.
عناية التابعين
نجد أيضاً الأعلام من التابعين (2)الذين أخذوا عِلمهم من الصحابة يعتنون بهذا العلم عناية تامة، كيف لا وهم تلاميذ صحابة رسول الله، فهذا رجل يسأل عكرمة (3)عن آية من القرآن، فيجيبه أنها نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى سَلْع (4).
عناية العلماء
اعتنى العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة فتتبعوا القرآن آية آية وسورة سورة ترتيباً وفق نزولها حيث بذلوا جهداً كبيراً، وراعوا في ذلك الزمان والمكان والخطاب وهو تحديد دقيق يعطي صورة علمية في التحقيق لهذا العلم.
منزلة المكي والمدني
من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، والآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية.
منهج سماعي: يستند إلى الرواية الصحيحة عن الصحابة والتابعين الذين عاصروا الوحي وشاهدوا نزوله، أو عن التابعين الذين تلقوا عن الصحابة وسمعوا منهم كيفية النزول ومواقفه وأحداثه.
منهج قياسي اجتهادي: يستند إلى خصائص المكي وخصائص المدني، فإذا ورد في السورة المكية آية تحمل طابع التنزيل المدني أو تتضمن شيئاً من حوادثه قالوا: إنها مدنية، وإذا ورد في السورة المدنية آية تحمل طابع التنزيل المكي، أو تتضمن شيئاً من حوادثه قالوا: إنها مكية، وهذا قياسي اجتهادي، ولهذا نجدهم يقولون: كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهي مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنية.
تعريف المكي والمدني فيه ثلاث آراء:
اعتبار زمن النزول: وهو القول المشهور (1) ويمتاز هذا القول بشمول تقسيمه جميع القرآن، ولا يخرج عنه شيء حتى كان عموم قولهم في المدني: ((ما نزل بعد الهجرة))، يشمل ما نزل بعد الهجرة في مكة نفسها في عام الفتح، أو عام حجة الوداع، مثل آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.كما يشمل ما نزل بعد الهجرة خارج المدينة في سفر من الأسفار أو غزوة من الغزوات، فالمكي ما نزل قبل الهجرة وإن كان بالمدينة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة، فما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة أو عرفة فهو مدني، كالذي نزل عام الفتح، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[21] أو نزل في حجة الوداع كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة: 3].
اعتبار المخاطب:أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة، لأن الغالب على أهل مكة الكفر، فخوطبوا بـ: {يا أَيُّها النَّاسُ}، وإن كان غيرهم داخلاً فيه، وكان الغالب على أهل المدينة الإيمان، فخوطبوا بـ: {يا أيها الذين آمنوا} وإن كان غيرهم داخلاً فيه، وهذا الضابط لا يطّرد - ينطبق - دائماً، لأن في سورة البقرة والنساء -وهما مدنيتان- خطاً باً مكياً وهو: {يا أَيُّها النَّاسُ}.
اعتبار مكان النزول: أن المكي ما نزل على النبي بمكة، والمدني ما نزل عليه بالمدينة، ويترتب على هذا الرأي عدم ثنائية القسمة، فما نزل عليه بالأسفار - مثل سورة الأنفال، وسورة الفتح، وسورة الحج -لا يطلق عليه مكي ولا مدني وذلك مثل ما نزل عليه بِتَبُوك وبيت المقدس، ويدخل في مكة ضواحيها، مِنى وعرفات، والحُدَيْبِيَة، ويدخل في المدينة أيضاً ضواحيها: بَدْر، وأُحُد، وسَلْع، وكذلك يترتب على هذا الرأي أن ما نزل بمكة بعد الهجرة يكون مكياً.
مميزات وضوابط المكي
ضوابطه:
كل سورة فيها سجدة.
كل سورة فيها لفظ كلا.
كل سورة فيها يا أيها الناس
كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة.
كل سورة فيها قصة آدم وإبليس ما عدا البقرة.
كل سورة تفتح بحروف التهجي مثل: آلم، آلر، حم، ما عدا البقرة وآل عمران.
مميزاته:
الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله، وذكر القيامة والجنة والنار، ومجادلة المشركين.
يفضح أعمال المشركين من سَفْك دماء، وأكل أموال اليتامى، ووأد البنات.
قوة الألفاظ مع قصر الفواصل وإيجاز العبارة.
الإكثار من عرض قصص الأنبياء وتكذيب أقوامهم لهم للعبرة، والزجر، وتسلية للرسول.
يعرف بالمكي والمدني الناسخ والمنسوخ -سيأتي الكلام عنه في النوع الخامس-، الذي كان من حكمة تربية القرآن في التشريع.
علم المكي والمدني يعين الدارس على معرفة تاريخ التشريع والوقوف على سُنة الله الحكيمة في تشريعه، بتقديم الأصول على الفروع، وترسيخ الأسس الفكرية والنفسية، ثم بناء الأحكام والأوامر والنواهي عليها، مما كان له الأثر الكبير في تلقي الدعوة الإسلامية بالقبول، ومن ثم الإذعان لأحكامها.
الاستعانة بهذا العلم في تفسير القرآن وفهم معانيه.
تذوق أساليب القرآن والاستفادة منها في أسلوب الدعوة.
الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية.
أمثلة للآيات المكية في سور مدنية وبالعكس
آيات مكية في سور مدنية
سورة الأنفال كلها مدنية ما عدا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ...} [الأنفال: 64].
سورة المجادلة كلها مدنية ما عدا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ… }[المجادلة: 7].
قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ..} [التوبة: 81].
من الآيات التي نزلت في الشتاء:
الآيات التي في غزوة الخندق من سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [ الأحزاب: 9] حتى الآية 27.
آيات الإفك: عن عائشة ا أنها قالت: إنها نزلت في يوم شات:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}[النور:11-22].
أول ما نزل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [ العلق:1]. وهذا هو الصحيح.
آخر ما نزل: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [ البقرة:281] وهذا أقوى الآراء وأرجحها في آخر ما نزل من القرآن مطلقاً.
الأوائل والأواخر المخصوصة:
الأوائل المخصوصة:
أول سورة نزلت بتمامها سورة الفاتحة.
أول ما نزل في تشريع الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ...} [الحج: 39].
أول ما نزل في تحريم الخمر: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...} [البقرة: 219].
أول ما نزل في الأطعمة: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...} [الأنعام: 145].
الأواخر المخصوصة:
آخر ما نزل يذكر النساء خاصة: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...} [آل عمران: 195].
آخر ما نزل في المواريث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ...} [النساء: 176].
آخر سورة نزلت بتمامها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1].
^السدوسي البصري، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، أبو الخطاب. "كتاب الناسخ والمنسوخ لقتادة - المكتبة الشاملة". shamela.ws. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، ١٤١٨هـ-١٩٩٨م. ص. 214. مؤرشف من الأصل في 2023-05-05. اطلع عليه بتاريخ 2023-07-06.
^المحاسبي، الحارث بن أسد. "كتاب فهم القرآن - المكتبة الشاملة". shamela.ws. دار الكندي، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة: الثانية، ١٣٩٨هـ. ص. 394. مؤرشف من الأصل في 2022-08-10. اطلع عليه بتاريخ 2023-07-06.