سفر القضاة
سفر القضاة (بالعبرية: ספר שופטים)؛ (باليونانية: Κριτές)؛ (باللاتينية: Liber Iudicum) هو سابع أسفار الكتاب المقدس العبري والعهد القديم المسيحي. يتناول السفر الفترة التاريخية بعد فتح أرض كنعان المذكور في سفر يشوع إلى زمن تأسيس المملكة المذكورة في أسفار صموئيل، والتي كان فيها القضاة [الإنجليزية] قادة مؤقتين.[1] تتبع قصص هذا السفر نمطًا ثابتًا حيث يُبدي شعب بني إسرائيل عدم الإخلاص ليهوه؛ لذا يُسلّمهم يهوه إلى أيدي أعدائهم، ثم يتوب الشعب ويطلبون من يهوه الرحمة، فيرسل لهم قائد أو بطل ("قاضي") ينقذهم من الظلم؛ لكن سرعان ما يقعوا مرة أخرى في الخيانة وتتكرر الدورة.[2] يعتبر العلماء أن العديد من القصص الواردة في سفر القضاة هي أقدم أجزاء التاريخ التثنوي، حيث يعود تاريخ تنقيحها الرئيسي إلى القرن الثامن قبل الميلاد، بالإضافة إلى أجزاء مثل أغنية دبورة التي يرجع تاريخها إلى وقت أسبق بكثير.[3][4] المحتوىيمكن تقسيم سفر القضاة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: مقدمة مزدوجة (1: 1 – 3: 6)، النص الرئيسي (3: 7 – 16: 31)، وخاتمة مزدوجة (17 – 21).[5] المقدمةيبدأ السفر بتواجد بني إسرائيل في الأرض التي وعدهم الإله بها، ولكنهم يعبدون "آلهة غريبة" بدلًا من يهوه إله بني إسرائيل، مع تواجد الكنعانيين الذين ما زالوا موجودين في كل مكان.[6] وبالتالي، فإن الآيات 1: 1 - 2: 5 كانت بمثابة اعتراف بالفشل، في حين أن الآيات 2: 6 - 3: 6 كانت تلخيصًا وتأملًا رئيسيًا من كتبة المصدر التثنوي.[1] حددت الافتتاحية النمط الذي ستتبعه القصص في النص الرئيسي:[5]
وبمجرد استعادة السلام، يقوم بنو إسرائيل بعمل الصواب، ويتلقون بركات يهوه لبعض الوقت، ولكنهم ينتكسون لاحقًا إلى فعل الشر، ويتكرر النمط نفسه. يبدأ سفر القضاة من حيث انتهى سفر يشوع بالإشارة إلى موت يشوع. يُشير "كتاب كامبريدج المقدس للمدارس والكليات" إلى أن وفاة يشوع يمكن اعتبارها بمثابة الفاصل بين فترة الغزو وفترة الاستيطان، حيث كان الاستيطان محور سفر القضاة.[7] يجتمع بنو إسرائيل، ربما في معبد في الجلجال أو في شكيم، ويسألون يهوه من يذهب أولًا لقتال الكنعانيين لتأمين الأرض التي سيحتلونها.[7] النص الرئيسييقدم النص الرئيسي روايات عن ستة قضاة رئيسيين ونضالهم ضد ملوك الأمم المحيطة الظالمين، بالإضافة إلى قصة الزعيم الإسرائيلي أبيمالك الذي اضطهد شعبه. يظهر النمط الرئيسي المبين في المقدمة بسهولة في البداية، ولكن مع تقدم القصص يبدأ في التغير، مما يعكس فساد عالم بني إسرائيل.[5] وبالرغم من أن بعض العلماء يرون أن القصص لم تُعرض وفق ترتيب زمني،[8] إلا أن القضاة بحسب الترتيب الذي ظهروا به في النص هم:
هناك أيضًا نبذات مختصرة عن ستة قضاة صغار: شمجر (3: 31؛ بعد إهود)، تولع ويائير (10: 1-5)، إبصان وإيلون وعبدون (12: 8 - 15؛ بعد يفتاح).[9] استنتج بعض العلماء أن القضاة الصغار كانوا قضاة فعليين، في حين أن كبار القضاة كانوا قادة ولم يصدروا أحكامًا قانونية فعليًا،[10] وأن القاضي الرئيسي الوحيد الذي وصف بأنه يصدر الأحكام القانونية كانت دبورة (4: 4).[11] الخاتمةبحلول نهاية عصر القضاة، كانت كنوز يهوه قد استُخدمت لصنع تماثيل وثنية، وأصبح اللاويون (الكهنة) فاسدون، وغزا سبط دان قرية نائية بدلاً من المدن الكنعانية، وشنّ أسباط بني إسرائيل حربًا على سبط بنيامين أقربائهم.[12] اختُتم السفر بخاتمتين ضمتا قصصًا لا تتضمن قاضيًا محددًا:[13]
على الرغم من ظهورها في نهاية السفر، إلا أن بعض الشخصيات (مثل يهوناثان [الإنجليزية] حفيد موسى) والتعابير الواردة في الخاتمة تظهر أن الأحداث الواردة فيها "لا بد أنها حدثت... بدايات عصر القضاة".[14] التسلسل الزمنييحتوي سفر القضاة على تسلسل زمني لأحداثه، تحدّدت فيه عدد سنوات كل قاضي وفترة السلام. بدا التسلسل الزمني للأحداث مُقسّمًا بشكل واضح، ومما يجعل هناك احتمالية بأنه كُتب لاحقًا.[15] المخطوطاتاحتوت أربعة من مخطوطات البحر الميت على أجزاء من سفر القضاة: المخطوط 1QJudg التي وُجدت في الكهف 1؛ والمخطوطتان 4QJudga و 4QJudgb اللتان عُثر عليهما في الكهف 4؛ والقُصاصة XJudges التي اكتشفت سنة 2001م.[16][17] تُعد أقدم نسخة كاملة باقية من سفر القضاة باللغة العبرية تلك الموجودة في مخطوطة حلب التي ترجع للقرن العاشر الميلادي.[18][19] كما عُثر على ترجمة يونانية قديمة (الترجمة السبعينية) للسفر ضمن مجموعة مخطوطات كولبرتو-سارافيانوس (التي ترجع لحوالي سنة 400م، وبها العديد من الثقوب) بالإضافة إلى جزء في لايبزيغ (يرجع لحوالي سنة 500م).[20][21][22][23] التأليفتختلف آراء العلماء فيما يتعلق بوجود أي من الأشخاص الذين ذكرهم السفر كقضاة.[24][25] مصادر التأليفكان المصدر الأساسي لتأليف سفر القضاة عبارة عن مجموعة من القصص غير المترابطة حول أبطال الأسباط الذين أنقذوا الناس في المعارك.[26] توسّع "سفر المنقذين" الأصلي هذا المكون من قصص إهود وياعيل وأجزاء من قصة جدعون، وتحوّل إلى كتاب عن "حروب يهوه" قبل أن يقوم كتبة المصدر التثنوي بمراجعتهم الأخيرة للسفر.[27] في القرن العشرين الميلادي، كان يُنظر إلى الجزء الأول من المقدمة (1: 1 - 2: 5) وجزأي الخاتمة (17 - 21) بشكل شائع على أنهما مجموعات متنوعة من الفقرات التي وُضعت في النص الرئيسي، أما الجزء الثاني من المقدمة (2: 6 – 3: 6) فكان يُنظر إليه كمقدمة مؤلفة خصيصًا للسفر.[28] في الآونة الأخيرة، كان هناك اعتراضات على هذا الرأي، ورغبة متزايدة في اعتبار سفر القضاة على أنه عمل فرد واحد قام باختيار المواد المصدرية، وأعاد صياغتها ووضعها بعناية ليعرض موضوعاته ويُلخّصها.[28] اقترح عالم الآثار إسرائيل فينكلشتاين أن مؤلف أو مؤلفي "سفر المنقذين" جمعوا هذه الحكايات الشعبية في زمن الملك يربعام الثاني ليزعموا بأن أصول الملك النمشي [الإنجليزية] على ما يبدو كانت ترجع إلى وادي يزرعيل الشرقي الذي كان جزءًا من الأراضي "الأساسية" لمملكة إسرائيل.[29] التاريخ التثنويفي أصحاحات الخاتمة (17 - 21)، تكررت عبارة "وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل"، مما يشير إلى أن هذه الخاتمة تعرضت للتنقيح خلال الفترة الملكية.[30] وفي مرتين من مرات تكرار العبارة، كانت العبارة مصحوبة بعبارة "كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه"، مما يُرجّح أن المحرر كان مؤيدًا لدور الملكية، وأن الخاتمة تعرضت للتنقيح في عصر مملكة يهوذا.[31] منذ النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، اتفق معظم العلماء مع فرضية مارتن نوث بأن أسفار التثنية ويشوع والقضاة وصموئيل والملوك تشكل أجزاء لعمل واحد.[32] أكد نوث أن هذا التاريخ كُتب في أوائل فترة السبي (القرن السادس قبل الميلاد) لتوضيح كيفية توائم تاريخ بني إسرائيل مع المحتوى الديني الوارد في سفر التثنية.[33] كما اعتقد نوث أن هذا التاريخ عمل مؤلف واحد، عاش في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، حيث قام بالاختيار والتحرير والتأليف من مصادره لإنتاج عمل متماسك.[34] رجّح فرانك مور كروس لاحقًا أن نسخة قديمة من هذا التاريخ أُلّفت في القدس في زمن الملك يوشيا (أواخر القرن السابع قبل الميلاد)؛ وأن هذه النسخة (Dtr1) نُقّحت ووُسّعت لإنشاء نسخة ثانية، حدّدها نوث وأطلق عليها كروس اسم (Dtr2).[35] يتفق العلماء على أن عمل يد مؤلفي المصدر التثنوي ظاهر في سفر القضاة من خلال الطبيعة الدورية المتكررة للسفر، حيث يقع بني إسرائيل في عبادة الأوثان، فيعاقبهم الإله على خطاياهم بأن تقمعهم الشعوب الأجنبية، فيستنجد بنو إسرائيل بالإله طلبًا للمساعدة، فيرسل الإله قاضيًا ليخلّصهم من القهر الخارجي، وبعد فترة من السلام، تتكرر الدورة. كما يعتقد العلماء أيضًا أن مؤلفي المصدر التثنوي أدرجوا أيضًا تعليقات فكاهية أو مهينة أحيانًا في السفر مثل قصة سبط أفرايم الذي لم يستطعوا نطق كلمة "شبولت" بشكل صحيح.[36](القضاة 12: 5-6) السمات والنوع الأدبيالمواضيع والنوع يدور الجوهر الديني التثنوي حول أن بني إسرائيل دخلت في عهد مُلزم مع الإله يهوه، وبموجبه وافقوا على قبول يهوه كإله لهم (ومن هنا جاءت عبارة "إله إسرائيل")، وفي المقابل وعدهم يهوه بأرض يمكنهم العيش فيها بسلام ورخاء. يحتوي سفر التثنية على القوانين التي يجب على بني إسرائيل العيش بموجبها في أرض الميعاد، ويسجل سفر يشوع غزو أرض كنعان الموعودة وتقسيمها بين الأسباط، بينما يصف سفر القضاة استيطان الأرض، ويصف سفرا صموئيل توحيد الأرض والشعب تحت حكم داود، ويصف سفرا الملوك سقوط المُلك وضياع الأرض.[37] كانت النهاية المأسوية الموصوفة في سفري الملوك هي نتيجة فشل بني إسرائيل في الحفاظ على الجزء الخاص بها من العهد، وهو الإخلاص ليهوه من أجل أن يجلب لهم النجاح الاقتصادي والعسكري والسياسي، ولكن عدم الإخلاص جلب لهم الهزيمة والقمع.[38] كانت السمة المميزة لسفر القضاة هي عدم إخلاص الشعب ليهوه، ولذلك يسلّمهم إلى أيدي أعدائهم؛ ثم يتوب الشعب ويعودون ليهوه من أجل الرحمة التي يرسلها في صورة قاضٍ. ينقذ القاضي بني إسرائيل من الظلم، ولكن بعد فترة يقعون في الخيانة مرة أخرى وتتكرر الدورة.[2] أرجع مؤلف السفر مرارًا وتكرارًا سبب التهديدات الموجهة إلى بني إسرائيل إلى ارتدادهم باللجوء إلى الآلهة الكنعانية، وكسر العهد و"عمل الشر في عيني الرب".[39] من بين السمات الأخرى للسفر: "حرية يهوه في أفعاله" (الإله لا يفعل دائمًا ما هو متوقع منه)؛ و"هجاء الملوك الأجانب" (الذين يستخفون باستمرار ببني إسرائيل ويهوه)؛ ومفهوم "الوكيل المعيب" (القضاة غير المؤهلين للمهمة التي أمامهم)؛ وفساد المجتمع الإسرائيلي الذي يظهر في القصص المتعاقبة.[40] ومن المثير للاهتمام إهمال السفر لبعض الموضوعات كتابوت العهد الذي أُعطي أهمية كبيرة في قصص موسى ويشوع، والذي يكاد يكون مفقودًا تمامًا؛ والتعاون المحدود بين الأسباط؛ وعدم ذكر أي مزار مركزي للعبادة؛ والإشارة المحدودة إلى رئيس كهنة بني إسرائيل (وهو المنصب الذي عُيّن فيه هارون في نهاية قصة الخروج).[41] على الرغم من أنه احتمالية حدوث تنقيح لسفر القضاة في العصر الملكي، إلا أن السفر يحتوي على مقاطع وموضوعات تمثل وجهات نظر مناهضة للملكية. أحد المواضيع الرئيسية للسفر هو سيادة يهوه وأهمية الولاء له ولشرائعه فوق كل الآلهة والملوك الآخرين. في الواقع، كانت سلطة القضاة ليست وراثية من خلال سلالات بارزة، ولا من خلال الانتخابات أو التعيينات، بل من خلال روح الإله.[42] يتجلّى المحتوى الديني المناهض للملكية بشكل أكثر وضوحًا في نهاية قصة جدعون حيث يتوسل بنو إسرائيل إلى جدعون لإنشاء سلالة ملكية، لكنه رفض.[43] ساد السلام بقية حياة جدعون، ولكن بعد وفاته، كان حُكم ابنه أبيمالك لشكيم طغيانًا مكيافيليًا سُفك فيه الكثير من الدماء. في المقابل، فإن الأصحاحات القليلة الأخيرة من سفر القضاة (على وجه التحديد، قصص شمشون وميخا وجبعة) سلطت الضوء على العنف والفوضى في حالة عدم وجود حكم مركزي.[44] ومما يلفت الانتباه وجود عدد من الشخصيات النسائية التي "تلعب أدوارًا مهمة، إيجابية وسلبية، في قصص سفر القضاة".[11] يقول الحاخام جوزيف تيلوشكين: «معظم النساء العظيمات في الكتاب المقدس إما متزوجات من رجل عظيم أو مرتبطات برجل عظيم. … الاستثناء النادر لهذا الرواية هو النبية والقاضية دبورة التي ربما تكون أعظم شخصية نسائية في الكتاب المقدس. تتفرد دبورة بمزاياها الخاصة. الشيء الوحيد الذي نعرفه عن حياتها الشخصية هو اسم زوجها لفيدوت.[45]» المصادر
المراجع
مواقع خارجية
Information related to سفر القضاة |