تتمحور الخطبة على بيان سعة علم أمير المؤمنين وشمول معرفته بالكائنات والحوادث التي وقعت والتي ستقع في مستقبل الأيام، كما أن الخطبة تتضمن بيان مقامات أمير المؤمنين وعلو قدره عند الله عز وجل وما جرى على يديه في سابق العصور من لدن آدم وقبل خلقة آدم عليه السلام.
لا يوجد ما يشير إلى تحديد مكان إلقائها بالدِّقة سوى ما صرّح به البُرسي من أنّ أمير المؤمنين خطب بها وهو ما بين الكوفةوالمدينة.[4]
ويرى البعض أنها تعود إلى الفترة التي تلت معركة صفين بقليل، مستظهرين ذلك من فقرة: «ولأقتلن بعمار بن ياسر وبأويس القرني ألف قتيل»[2]
ويظهر من الخطبة أنه كان يخاطب جماعة وذلك ظاهر من ضمير الخطاب المتكرر طوال الخطبة، ومن ذلك قوله : «ألا فابشروا، فأنتم نعم الاخوان، ألا وان لكم بعد حين طرفة تعلمون بها بعض البيان»[2]
وكما يظهر من الخطبة أن من المخاطبين جابر بن عبدالله الأنصاري وأبن صويرمة وأبنه الشهيد الإمام الحسين ويظهر ذلك من قوله: «يا جابر، أنتم مع الحق ومعه تكونون، وفيه تموتون، يا جابر إذا صاح الناقوس...» وقوله :«كأني بهذا (وأشار إلى الحسين عليه السلام) قد ثار نوره بين عينيه». وقوله فيها: «فقام إليه ابن صويرمة، فقال: أنت أنت يا أمير المؤمنين»[2] وابن صويرمة هذا لم يذكره أحد من الرجاليين في عداد أصحاب أمير المؤمنين، وهو رجل مجهول الحال.
وجه التسمية
جاء ذلك لوجود مفردة «التنطج» في الخطبة تارة بنحو الإفراد وأخرى التثنية؛ وذلك قوله في أولها: «أنا الواقف على التطنجين».
والمفردة هذه، من الألفاظ التي لم تبيّن لنا مصادر اللّغة طريقة التلفظ بها، إلا أن نفس الخطبة قط بينت معنى الكلمة حيث قال : «والتطنجان، خليجان من ماء كأنهما أيسار تطنجين»؛ ونسب البُرسي إلى القدامى أنهم يفسرون كلمة التطنجين بالدنيا والآخرة.[5]
أما السيد كاظم الرشتي فقد أشار إلى وجه آخر في التسمية قائلا: إنما سُميت بذلك لاشتمال الخطبة على «الأكوار» و «الأدوار» والذين ينحصران في كرتين، وقد واصل حديثه في وصف هذين الكرتين واعتبرهما «التطنجين»، وقد شيّد السيد كاظم الرشتي الكثير من رؤاه الخاصّة على نظرية التقابل بين التطنجين، واعتبرهما ينبعان من عين واحدة ومجمعها البحر المحيط.[6] ولا يخفى أن تفسير السيد الرشتي هو من باب تفسير المعنى والمغزى لا نفس الكلمة إصطلاحاً.
محتوى الخطبة
بدء الخلقة
تشرع الخطبة بالحديث عن خلق العالم وهي تقترب كثيراً في محتواها مع الخطبة الأولى من نهج البلاغة؛ ومن ذلك قوله : «وخلق البحار والجبال على تلاطم تيار رفيق رئيق، فتق رتجاها فتغطمطت أمواجها»[2]
علم الإمام علي عليه السلام
وبعد الفراغ من الحديث عن خلق العالم تشرع الخطبة في الحديث عن التطنجين وتأخذ الخطبة تنحى باتجاه خاص يميزها عن غيرها. ويتمحور الطابع العام للخطبة على بيان سعة علم الإمام علي، وتقدّمه بالعلم والمعرفة وتبحره في معرفة حقائق الكائنات والحوادث التاريخية الماضية والمستقبلية ومن ما جاء في ذلك قوله فيها : «وعرفت ما كان وما يكون وما كان في الذر الأول مع من تقدم من آدم الأول، ولقد كشف لي فعرفت، وعلمني ربي فتعلمت»[2] كما أن هذه المعاني متواترة إما لفظاَ أو معنىً في الأخبار الواردة عنه وعن أهل بيته عليهم السلام.
مقامات الإمام عليه السلام
كما أن الخطبة في الجزء الأكبر منها تتكلم بلسان بيان المقامات للإمام علي وما كان من صنيعه وتأثيره بالعوالم السابقة إلى عالمنا هذا وآدمنا هذا، ويظهر ذلك جلي في مواضع عدة ومنها تكرار كلمة أنا ويليها شيء من مقاماته العالية، ومن ما جاء في ذلك قوله : «ولو كشف لكم ما كان مني في القديم الأول، وما يكون مني في الآخرة، لرأيتم عجائب مستعظمات، وأمورا مستعجبات، وصنايع وإحاطات.»[2] وفي ذلك أو ما يشابهه وردت أخبار مستفيضة عنه وعن أهل بيته عليهم السلام من كونهم أول الخلق وأنهم كانوا أنواراً محيطةً بالعرش وأن الإمام علي وهو قسيم الجنة والنار وغيرها الكثير ما يأيد هذه المعاني ومايقرنها ويعضدها.
أخباراته بما سيحدث
وفي أخرها تبدأ بسرد وقائع من أخر الزمان ومن ذلك قوله : «ألا ويل لمداينكم وأمصاركم من طغاة يظهرون فيغيرون ويبدلون إذا تمالت الشدائد من دولة الخصيان، وملكة الصبيان، والنسوان، فعند ذلك ترتج الأقطار بالدعاة إلى كل باطل، هيهات هيهات»[2]
خصائص الخطبة
تمتماز الخطبة كباقي خطب أمير المؤمنين بالجزالة والإلقاء الرنان، كما أن الخطبة أمتازت بلحن قرآني في معانيها ومفرداتها، ويذهب البعض لتصنيفها في مسار خطبة البيان، وخطبة الافتخار، وخطبة اللؤلؤةوخطبة الأقاليم، لما هنالك من شباهة في تجسيد حقائق الأمور والإلقاء بأسلوب الصدع.
ومن الملفت لنظر القارئ في هذه الخطبة أشتمالها لمعلومات علمية لم تكن معروفة آن ذاك؛ فتارة تذكر الخطبة بما يعرف في هذه العصور بشبهة الآكل والمأكول وذلك في قوله : «فكم من آكل منكم لحم أخيه، وشارب برأس أبيه، وهو يشتاقه ويرتجيه.»[2] وذلك أن الإنسان حين يتفسخ تذهب أجزاءه إلى الأرض فمن ثم يستفيدها النبات في غذائه ثم أن الماشية تقتات على هذه النباتات والإنسان يأكل النباتات وكذلك الماشية فمن هذا يكون الإنسان أكلاً للحم أبيه وهو لايشعر ولا يعلم، وأما قوله «شارب برأس أبيه» فذلك أن الآنية والخزف يصنع من الرمال. ومن ما تعرضت الخطبة له من الحقائق العليمة أصوات الكواكب الناتجة من الحركة وذلك في قوله : «ولولا اصطكاك رأس افردوس، واختلاط التطنجين، وصرير الفلك، يسمع من في السماوات والأرض رميم حميم دخولها في الماء الأسود».
ومن ما تتظمنه الخطبة في طياتها ذكر حقائق العوالم السابقة التي جاء ذكرها في الأحاديث الكثيرة عنهم عليهم السلام ومن تلك الأحاديث رواية الإمام الباقر «لقد خلق الله ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم»[7] ومن ما أشارت الخطبة في تلك العوالم قوله : «أنا صاحب الخلق الأول قبل نوح الأول، ولو علمتم ما كان بين آدم ونوح من عجائب اصطنعتها، وأمم أهلكتها: فحق عليهم القول، فبئس ما كانوا يفعلون.»[2] ويذهب بعض الباحثين أن قوله نوحٌ الأول إشارة إلى نوحٍ الذي كان في العالم الأول من هذه العوالم العديدة.
وتوجد في الخطبة إبهامات ومصطلحات غير مفهومة، ويذهب بعض المحققين أن السبب وراء هذا ماجرى على الخطبة من التصحيف نتيجة إهمالها وعدم الاكتراث بها، كما أن الخطبة تشتمل على كلمات بسببها يثير البعض الشكوك حول هذه الخطبة ومن قبيل تلك الكلمات ماجاء فيها: «أنا طيرثا، أنا جانبوثا، أنا البارحلون، أنا عليوثوثا، أنا المسترق على البحار في نواليم الزخار عند البيار.»[2] ومن ذلك استعمال مفردة «عمقيوس» للدلالة على عقر جهنم؛ ويجيب البعض بأن عدم فهمنا لمقاصد هذه الكلمات لا يتعدى كوننا لا نعلم.
الخطبة في كلمات العلماء
لم تحظ الخطبة- باستثناء السيّد هبة الله الموسوي والشيخ رجب البرسي- باهتمام الباحثين والأعلام الشيعة حتى القرن الثالث عشر الهجري.
نعم، ذهب الفيض الكاشاني - في العصر الصفوي- إلى تصحيح نسبة الخطبة إلى أمير المؤمنين.فيما نرى العلامّة المجلسي يتجاهل إدراجها في موسوعة بحار الأنوار، ولم يعلق عليها رغم وجود كتاب البرسي عنده وذلك بسبب أن كثيراً من العلماء اتهموا ناقلها أي الحافظ رجب البرسيبالغلو والارتفاع ولكن لا يعدوا هذا القول أن يكون جزافاً من القول.
ومع إطلالة القرن الثالث عشر الهجري وفي حدود سنة 1232 ه. قام السيد كاظم الرشتي بشرحها مفصلاً في كتاب مستقل سماه بشرح الخطبة التطنجية. وهذا بعض ما قاله في مقدمة شرحه:
"اعلم أن العلماء في هذه الخطبة الشريفة وأمثالها من الخطب والأحاديث تشعبوا إلى أربع شعب، فمنهم من طرحوا هذه الأخبار واسقطوها عن نظر الاعتبار وقالوا أنها أخبار أحاد لا تفيد علماً ولا عملاً. وأما القسم الثاني، فقد توقفوا في تصديقها وتكذيبها حيث رأوا شيوع هذه الأخبار وتكررّها وتواردها في كتب الفرقة المحقة وورود الأدعية الكثيرة بمضمونها والزيارات الوادرة عنهم عليه السلام وورود الأخبار الكثيرة بمعناها عن أخبار الثقات إلا أن هنالك أخباراً بظاهرها تنفي هذه المضامين وتؤيدها بعض المضامين من ظواهر القران الحكيم فختاروا التوقف والسكوت فيها لقولهم عليهم السلام "الوقوف عند الشبهات خير من الأقتحام في الهلكات.والقسم الثالث، تلقوها بالقبول وشهدوا على حقيقتها لكنهم حاولوا معرفتها بالعقول دون الاستناد لآل الرسول فجروا في بيان هذه الخطب مجرى الصوفية والملاحدة القائلين بوحدة الموجود. وأما الفرقة الرابعة تلقوا هذه الخطبة واشباهها من الأخبار بالعقول وعرفوها بنورها على مافهموا من كلمات آل الرسول."[8]
في المقابل نجد الميرزا القمّي (د1232 ه.) ينفي نسبة الخطبة إلى الإمام علي عليه.[9] وبعد قرابة قرن من الزمن اهتم الحائري اليزدي (د 1333 ه) بالخطبة وأدرج الكثير من مقاطعها ومضامينها المؤشرة إلى علامات الظهور في كتابه إلزام الناصب.[10]
وقال صاحب كتاب الأنوار الإلهية: إنّ الخطبة المذكورة لم ترد بسند معتبر، وإن اشتملت على مضامين وفقرات وردت في روايات أخرى.[11]
وقال آغا بزرك الطهراني في الذريعة: والبرسى لم يذكر خطبة الأقاليم في كتابه، وإنمّا ذكر الخطبة التطنجية التي ذكر في أواخرها الأقاليم الأربعة وابن شهر آشوب ذكر الأقاليم دون التطنجية فيحتمل اتحادهما فليرجع اليهما.[12] إلّا أنّ مضامين خطبة الأقاليم التي أشار إليها صاحب المناقب غير موجودة غالباً في الخطبة التطنجية، [13] فمن المستبعد إتحادهما.
أنا صاحب جنات الخلود، أنا مجري الأنهار أنهارا من ماء تيار، وأنهارا من لبن، وأنهارا من عسل مصفى، وأنهارا من خمر لذة للشاربين، أنا حجبت جهنم وجعلتها طبقات السعير، وسقير الجير، والأخرى عمقيوس أعددتها للظالمين، وأودعت ذلك كله وادي برهوت، وهو والفلق ورب ما خلق، يخلد فيه الجبت والطاغوت وعبيدهما، ومن كفر بذي الملك والملكوت. أنا صانع الأقاليم بأمر العليم الحكيم، أنا الكلمة التي بها تمت الأمور ودهرت الدهور، أنا جعلت الأقاليم أرباعا، والجزائر سبعا، فإقليم الجنوب معدن البركات، وإقليم الشمال معدن السطوات، وإقليم الصبا معدن الزلازل وإقليم الدبور معدن الهلكات.
ألا ويل لمداينكم وأمصاركم من طغاة يظهرون فيغيرون ويبدلون إذا تمالت الشدائد من دولة الخصيان، وملكة الصبيان، والنسوان، فعند ذلك ترتج الأقطار بالدعاة إلى كل باطل، هيهات هيهات، توقعوا حلول الفرج الأعظم، وإقباله فوجا فوجا، إذا جعل الله حصباء النجف جوهرا، وجعله تحت أقدام المؤمنين، وتبايع به للخلاف والمنافقين، ويبطل معه الياقوت الأحمر، وخالص الدر والجوهر، ألا وإن ذلك من أبين العلامات، حتى إذا انتهى ذلك صدق ضياؤه، وسطع بهاؤه، وظهر ما تريدون، وبلغتم ما تحبون، ألا وكم إلى ذلك من عجائب جمة، وأمور ملمة، يا أشباه الأعثام، وبهام الأنعام، كيف تكونون إذا دهمتكم رايات لبني كنام مع عثمان بن عنبسة من عراص الشام يريد بها أبويه، ويزوج بها أمية، هيهات أن يرى الحق أموي أو عدوي.
ثم بكى صلوات الله عليه، وقال: واها للأمم، أما شاهدت رايات بني عتبة مع بني كنام السائرين أثلاثا، المرتكبين جبلا جبلا مع خوف شديد، وبؤس عتيد، ألا وهو الوقت الذي وعدتم به، لأحملنهم على نجائب، تحفهم مراكب الأفلاك، كأني بالمنافقين يقولون نص علي على نفسه بالربانية، ألا فاشهدوا شهادة سألكم بها عند الحاجة إليها، إن عليا نور مخلوق، وعبد مرزوق، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين. ثم نزل وهو يقول: تحصنت بذي الملك والملكوت، واعتصمت بذي العزة والجبروت، وامتنعت بذي القدرة والملكوت، من كل ما أخاف وأحذر، أيها الناس ما ذكر أحدكم هذه الكلمات عند نازلة أو شدة إلا وأزاحها الله عنه. فقال له جابر: وحدها يا أمير المؤمنين، فقال: نعم وأضيف إليها الثلاثة عشر اسما، وضمني، ثم ركب ومضى[2]