وكان الفرنسيون قد استفادوا من هذه الهدنة من أجل التفرغ للقضاء على مقاومة أحمد باي في الشرق الجزائري، إعداد فرق عسكرية خاصة بحرب الجبال في منطقة القبائلوالتيطريوالونشريس، فك الحصار عن المراكز الاستيطانية الفرنسية، وانتظار وصول الإمدادات العسكرية من فرنسا[3] · .[4]
وأثناء ذلك، استغل الأمير عبد القادر هذه المعاهدة لتعزيز قواته العسكرية وتنظيم دولته من خلال الإصلاحات الإدارية والتنظيمات العسكرية.ذ، فقام بتشكيل مجلس وزاري مصغر يضم رئيس الوزراء، نائب الرئيس، وزير الخارجية، وزير الخزينة الخاصة ووزير الأوقاف (وزير الأعشار والزكاة)، ثم الوزراء الكتبة وهم ثلاثة حسب الحاجة واتخذت هذه الدولة من مدينة معسكر عاصمة لها.[5]
وقام الأمير عبد القادر بتأسيس مجلس الشورى الأميري المتكون من 11 عضوا يمثلون مناطق مختلفة.[6]
وكان من أهم إنجازات المرحلة هو التقسيم الإداري للبلاد إلى ثمان مقاطعات أو ولايات، وكل مقاطعة يديرها خليفة، وقسم كل مقاطعة إلى عدة آغاليك أو دوائر، ووضع على رأس كل آغاليك قائدا يدعى برتبة آغا، ويضم الآغاليك عددا من القبائل يحكمها قائد، ويتبع القائد مسؤول إداري يحمل لقب شيخ.[7]
وقام الأمير عبد القادر بتنظيم الميزانية وفق مبدأ الزكاة، وفرض ضرائب إضافية لتغطية نفقات الجهاد وتدعيم مدارس التعليم، كما أجرى تدعيما للقوة العسكرية بإقامة ورشات للأسلحة والذخيرة وبناء الحصون على مشارف الصحراء حتى يزيد من فاعلية جيشه.[8]
وبادر كذلك إلى تصميم علم وطني وشعار رسمي للدولة، بالتوازي مع ربط علاقات دبلوماسية مع بعض الدول.[9]
نقض المعاهدة
شعر الفرنسيون بخطورة نشاط الأمير على مصالحهم فنقضوا معاهدة تافنة من خلال مبادرة «المارشال فالي» إلى خرق الهدنة بعبور قواته الأراضي التابعة للأمير.[7]
ذلك أن الجنرال بيجو كان قد استعد بجيوش جديدة أثناء فترة الهدنة منذ 30 ماي1837م، وكرر الفرنسيون نقض المعاهدة عدة مرات منذ مطلع عام 1839م، وبدأ الجنرال بيجو يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، ويحرق القرى والمدن التي تساند الأمير.[14]
وكان المارشال فالي هو الذي تكفل بالعمليات الدموية الناقضة للمعاهدة لأنه كان يرى أن محيط مدينة وهرانومدينة الجزائر يجب أن يتم تحصينه وتحريره من سلطة الجزائريين، فاقترح على الحكومة الفرنسية أن يتم احتلال مدينتي القليعةوالبليدة.
وكان الأمير عبد القادر قد أعطى أوامره في بداية 1839م لحلفائه من قبائل حجوط كي يزعجوا القبائل العميلة في «وطن بني موسى» و«وطن بني خليل» داخل متيجة لجعلهما غير قابلين للاستيطان الفرنسي في انتظار الاكتساح الجزائري لهذه المنطقة.
وكان الفارس «البشير بن خويلد» هو أشجع فرسان حجوط الذي كان يقود الغارات على «وطن بني موسى» و«وطن بني خليل» وسائر مناطق متيجة لبث الرعب وسط الفرنسيين، وكان ابن عمه «إبراهيم بن خويلد» ساعده الأيمن في العمليات الحساسة، بالإضافة إلى «الجيلالي بن دواد» و«علي بن عودة» و«رمضان بلحاج» و«علي بن حميدة» و«الحاج سليمان» و«قويدر بن ضياف».
وكان الاكتساح الكبير الموعود بُعيد يوم 11 نوفمبر1839م بمشاركة الخلفاء الثلاثة «أحمد بن سالم» من الشرق (البويرة)، «محمد بن علال» من الغرب (مليانة)، و«محمد بن عيسى البركاني» من الجنوب (المدية).
وقد حشد «أحمد بن سالم» جنوده وفرسانه من أجل تخريب ممتلكات الفرنسيين في متيجة وسلبها أثناء هذا الهجوم.
فتم الانتقام من القبائل العميلة المتعاونة مع الفرنسيين في متيجة لتكون حصيلة القتلى من الفرنسيين وحلفائهم كبيرة جدا بالإضافة إلى خراب المستوطنات الزراعية.
وقام «أحمد بن سالم» بالهجوم على القبائل العميلة في «وطن الخشنة» شرق سهل متيجة بتاريخ 15 ديسمبر1839م أين أجبر عملاء فرنسا على ترك دواويرهم مع قائدهم العميل «أحمد بن قاية» الذي احتمى في مدينة الجزائر.
فانسحب «قائد بني خليل» المدعو «محمد بن حليمة» نحو مدينة الجزائر في 18 ديسمبر1839م للاحتماء بها من المقاومين الجزائريين.
وقد تسلل 2.000 فارس جزائري نحو متيجة بتاريخ 20 ديسمبر1839م، حيث أن فرسان «أحمد بن سالم» هاجموا «الدواوير» العميلة في «جبال الخشنة» من الشرق، في حين أن فرسانا آخرين قادمين من المدية مروا عبر وادي الحراش، إلا أن الجنود الفرنسيين في معسكر «وطن بني موسى» صدوا هؤلاء الفرسان الآتين من الجنوب.
وهاجم «أحمد بن سالم» في 22 ديسمبر1839م موكبا من 200 جندي في «الفوج الثامن والأربعين من مشاة الخط» قرب الحراش، وكان تعداد الجزائريين يصل إلى 800 جندي نظامي، إلا أن رد فعل «الرائد مارشزان» سمح بإنقاذ جنوده من الإبادة وإيصالهم إلى الحراش سالمين.
فتم حشد كل القوات الجزائرية المتوفرة من طرف خليفتَيْ «مقاطعة التيطري» و«مقاطعة مليانة» قصد الاستحواذ على مدينتي البليدةوالشفة، في حين أن المشاة النظاميين والفرسان الكثيرين كانوا متجمهرين في منحدر «وادي الكبير»[19] · .[20]
وتم الاشتباك في منطقة «سيدي خليفة» مع الفرسان الجزائريين الذين قاموا بمناوشة الفرنسيين الذين ردوا عليهم على مستوى وادي العلايق بهجوم حوالي 2.000 فارس مدعومين بقناصي الفوج السابع عشر من المشاة الخِفاف حيث اندلع تبادل إطلاق نار كثيف بين الطرفين.[25]
وبعد مواجهة الفرسان الجزائريين جاء دور الالتحام مع المشاة قرب المكان المسمى «أشجار السرو الخمسة»، أين تقدم جيش من حوالي 1.500 جندي مشاة، من بينهم 800 جندي من المشاة النظاميين للأمير عبد القادر، وكان هذا الجيش من المشاة الجزائريين يتوجهون نحو مقدمة الجيش الفرنسي وهم ضاربون للطبل ورافعون للأعلام والرايات.[26]
وبعد تبادل كثيف لإطلاق رصاص البنادق مع استعمال الحراب والسيوف المنحنية، انسحبت القوات الجزائرية في فوضى كبيرة تاركة وراءها حوالي 300 جندي مقتول على أرض المعركة.[30]
وكانت غنائم الفرنسيين متمثلة في قطعة مدفعية، ثلاث رايات، صناديق الطبل الخاصة بالمشاة النظاميين الجزائريين، بالإضافة إلى العديد من الأسلحة.[31]
وإذا كان عدد الجزائريين المشاة المقتولين بلغ 300 جنديا في هذه المعركة، فإن بعض الفرسان الجزائريين قد سقطوا قتلى كذلك في ساحة الوغى قرب وادي العلايق[34] ·[35] · .[36]