ولد عفلق في عائلة من الطبقة المتوسّطة في العاصمة السوريّة دمشق، ودرس في جامعة السوربون الفرنسيّة، حيث قابل فيها رفيقه السياسيّ المستقبليّ صلاح الدين البيطار. عاد عفلق إلى سوريا في عام 1932، وبدأ حياته السياسيّة في السياسة الشيوعية. أصبح عفلق ناشطًا شيوعيًا، لكنه قطع علاقاته بالحركة الشيوعيّة بعد دعمِ الحزب ِ الشيوعيِّ السوريِّ اللبنانيِّ السياساتِ الاستعماريّة الفرنسيّة. أسّس عفلق والبيطار في وقت لاحق من عام 1940، حركة الإحياء العربي (وسُمّيت فيما بعد باسم حركة البعث العربي، وأخذت الاسم من مجموعة زكي الأرسوزي). أثبتت الحركة نجاحها، وفي عام 1947 اندمجت حركة البعث العربي مع منظّمة زكي الأرسوزي التي حملت اسم البعث العربي أيضاً لتأسيس حزب البعث العربي. تمّ انتخاب عفلق لعضوية اللّجنة التنفيذيّة للحزب وانتخب «عميداً» (بمعنى زعيم) له.
اندمج حزب البعث العربيّ في عام 1952 مع الحزب العربي الاشتراكيّ الذي أسّسه أكرم الحوراني عام 1950 لتشكيل حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وتمّ انتخاب ميشيل عفلق زعيماً للحزب عام 1954. بدأ الحزب خلال منتصف إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين في تطوير العلاقات مع رئيس مصر حينها جمال عبد الناصر، ممّا أدّى في النهاية إلى تأسيس الجمهورية العربية المتحدة. أَجبرَ جمال عبد الناصر عفلق على حلّ الحزب، فقام بذلك دون التشاور مع الأعضاء. تمّت إعادة انتخاب عفلق أميناً عامّاً للقيادة الوطنية لحزب البعث بعد فترة قصيرة من حدوث الانفصال في عام 1961. تمّ بعد انقلاب الثامن من آذار /مارس عام 1963 إضعاف موقف عفلق داخل الحزب، إلى أن أُجبر في عام 1965 على الاستقالة من منصبه كزعيمٍ له. تمّ خلال الانقلاب السوري عام 1966خلع عفلق، ممّا أدى إلى حدوث انشقاقٍ داخل حزب البعث. هرب بعدها ميشيل عفلق إلى لبنان، وتوجّه بعد ذلك إلى العراق، وتمّ انتخابه أمينا عاما لقيادة حزب البعث في العراق في عام 1968، لكنّه لم يحتفظ خلال فترة ولايته بأي سلطة فعليّة، وظلّ في نفس المنصب حتى وفاته في 23 من شهر حزيران/ يونيو من عام 1989.
ترى نظريات عفلق حول المجتمع والاقتصاد والسياسة، والتي تعرف مجتمعةً باسم البعث، أنّ هناك حاجة للعالم العربيّ إلى التوحّد في أمّة عربيّة واحدة من أجل تحقيق حالة متقدّمة من التنمية. انتقد عفلق كلّاً من الرأسماليّةوالشيوعيّة ورؤى كارل ماركس التي تعتبر أنّ المادّيّة الجدلية هي الحقيقة الوحيدة. ركّز الفكر البعثيّ بشكلٍ كبير على الحرّيّة والاشتراكيّة العربيّة – أيّ اشتراكيّة ذات سمات عربيّة، لم تكن جزءًا من الحركة الاشتراكيّة الدوليّة كما حدّدها الغرب. آمن عفلق بفصل الدّين عن الدّولة وكان مؤمنًا قويًا بالعلمانيّة، لكنّه كان ضدّ الإلحاد. كان يعتقد -بالرغم من كونه مسيحيًا- أنّ الإسلام دليلٌ على «العبقريّة العربيّة»، وقد أعجب بتنظيم وأيديولوجية الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يتزعمه أنطون سعادة.[2] اتّهمت قيادة حزب البعث في سوريا في أعقاب انقسام حزب البعث عام 1966 عفلق بسرقة أفكار زكي الأرسوزي، ووصفته بأنّه «لصّ»، بالمقابل فقد رفضت قيادة حزب البعث في العراق الاتّهامات، ولا تعتقد أنّ الأرسوزيّ قد ساهم بالأساس في الفكر البعثيّ. فضلاً عن ذلك، قال صدّام حسين -دون تقديم دليل- إنّ عفلق قد اعتنق الإسلام سرّاً قبل وفاته، ولم يصدر أي رد فعل من عائلته أو أصدقائه على ذلك.[3] وفي مقابلة صحفية نشرتها العربية نت في 7 أيار سنة 2007 مع إياد ابن ميشيل عفلق ذكرت العربية نت أنه "أكدت عائلة ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، أنه ترك رسالة أعلن فيها اعتناقه الاسلام، وكتبها في طائرة تعرضت لخلل فني في الجو فوق بغداد عام 1980 ، وجهها إلى الرئيس العراقي صدام حسين" وقال إياد ابن ميشيل إن والده كان في رحلة من باريس إلى بغداد حدث أثناءها خلل فني في الطائرة فكتب ميشيل حينئذٍ رسالة موجهة إلى صدام حسين قال فيها ميشيل "إذا حصل لي حادث، فإني أموت على دين الإسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" قال إياد إن والده ميشيل وقّع في نهاية الرسالة باسم أحمد ميشيل عفلق وتاريخ 12 تموز 1980"، وقال إياد "في عام 1995 عثرت على الرسالة في القرآن الذي كان يحمله والدي معه في الطائرة فأرسلت رسالة للرئيس صدام حسين أخبره بذلك كما أرسلت له رسالة والدي، وبعد ذلك قررت القيادة العراقية وضعها في ضريح ببغداد" ونشر موقع الحقيقة الدولية نصّ الرسالة التي أرسلها إياد ابن ميشيل عفلق إلى الرئيس صدام حسين قال فيها "السيد الرئيس القائد صدام حسين المحترم، حفظكم الله ورعاكم،وتحية حب واحترام وبعد، أبعث لسيادتكم طيا وثيقة بخط والدنا رحمه الله، عثرنا عليها بين صفحات إحدى نسخ القرآن الكريم الموجودة لدينا، وقد ارتأينا في الأسرة أن نرسلها لسيادتكم نظرا لأهميتها. مع فائق التقدير والإحترام، 1995/03/19".[4] وقال إياد عن قبر والده في بغداد "هناك تقارير تحدثت أنه تم نبش القبر وتدميره".[1]
لمع نجم ميشيل على مقاعد الدراسة وانتقل إلى باريس مع صديقه صلاح الدين البيطار ليلتحق بجامعة السوربون حيث بلور أفكاره الحزبية. وفي باريس، انخرط عفلق في الجمعية العربية السورية (التي كانت تدعو إلى الاستقلال والدفاع عن فلسطين والوحدة العربية الشاملة) وجمعية الثقافة العربية (التي مازالت تهتم بأمور الأدب والتاريخ العربي). وتأثر عفلق بحركة الانبعاث الإيطالي بزعامة جوزيبي مازيني فحملها بأهدافها إلى الواقع العربي ولم يكن الفكر البعثي وليد ثقافة ميشيل عفلق بل استورد عفلق فكرة الانبعاث الإيطالي بأهدافه (الوحدة - الحرية - الاستقلال)، ولكون كثير من الدول العربية نالت استقلالها نسبيا مزج عفلق مبدأ الإشتراكية ليكون الفارق البسيط مع فكرة مازيني (الانبعاث الإيطالي).
وبعد رجوعه إلى سوريا عام 1933، عمل عفلق والبيطار كمدرسين، وبدآ يبشران بأفكارهما في أوساط الطلاب والشباب ونشط في الوسط السياسي. وفي عام 1942 استقالا من عملهما، وانصرفا كلية للنضال الفكري والسياسي والقومي. وخضع ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في فرنسا لجملة من التأثيرات الثقافية التي تركت عندهما انطباعات متباينة، ثم عندما عادا إلى الوطن خضعا أيضا لتأثيرات محلية، قومية ودينية وسياسية مختلفة، وكانت حصيلة هذه التأثيرات الداخلية والخارجية المتباينة أن وقع الاثنان تحت وطأة «أزمة روحية وفكرية عميقة استمرت عامين» انقطعا خلالها عن كل كتابة. كان جوهر الأزمة التي كان يعاني منها ميشيل عفلق، في تلك الفترة هو الموقف من الشيوعية ومن الحزب الشيوعي السوري. يقول ميشيل عفلق حول هذه النقطة:
«كان لا بد لحركتنا منذ التعبير الأول عن فكرتها أن تتخذ موقفا أساسيا ومحددا من الشيوعية كنظرية معدة للتطبيق، وكنظرة إلى الإنسان، ذلك لأن الشيوعية أظهرت نفسها كخلاصة للفلسفات التي عرفها البشر، وكدين جديد لمستقبل الإنسانية، فتحديد موقفنا منها كان مفروضا علينا من هذه الاعتبارات[6]»
قام عفلق عام 1941 بتكوين أول جماعة سياسية منظمة باسم الإحياء العربي أصدرت بيانها الأول في شباط. وما لبثت هذه الجماعة أن وضعت مبادئها القومية موضع التنفيذ عندما أعلنت تأييدها لانتفاضة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإحتلال البريطاني عام 1941، وأسست «حركة نصرة العراق».
تسلم منصب وزير التعليم في عام 1949، واستقال من منصبه بعد فترة وجيزة. وفي عام 1952 فرّ إلى بيروت مع أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار عام 1953 هرباً من الاضطهاد السياسي لنظام أديب الشيشكلي. وعاد إلى بلده مرة أخرى عام 1954. في الفترة الواقعة بين 1955و1958 كان ميشيل عفلق من أبرز الداعين إلى وحدة سورياومصر، ولعب دورا بارزا في تحقيقه الوحدة بينهما عام 1958. وبالرغم من كونه الأب الروحي لحزب البعث الحاكم في سوريا وأمينه العام (القيادة القومية) فقد وجد نفسه في مواجهة بروز تغلغل عسكري وفئوي داخل الحزب تتوج في 23 شباط1966 بانقلاب دموي أطاح بالقيادة التاريخية للحزب فترك سورية وقال «"ليس هذا حكم البعث، وليست هذه ثورة البعث، ولا الأهداف أهداف حزبنا وشعبنا.. ولا الأخلاق أخلاق حزبنا وشعبنا"». لجأ إلى بيروت ومن ثم إلى بغداد عام 1975 بعد اشتداد الحرب الأهلية في لبنان وركز على قيادة العمل الفكري في الحزب وفي هذا الإطار دعى عام 1985 إلى بناء عمل عربي مستقبلي وأشرف على عدة اجتماعات عقدت في بغدادوباريس للحوار بين مثقفين وشخصيات قومية وقيادات من عدة أحزاب عربية.
أفكاره
الوحدة
الحرية
دعا عفلق إلى الحرية من الاستعمار وإلى حرية الفرد وإلى الديمقراطية، وفي هذا السياق يقول:
«الحرية على كل اتساعها وأبعادها: التحرر من الاستعمار، ومن الأجنبي ونفوذه واستغلاله بكل أشكاله، والتحرر في الداخل الذي يشمل النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية[5]»
الاشتراكية
علاقة البعث بالأفكار والنظريات الأخرى
علاقة البعث بالإسلام
اشتهر ميشيل عفلق بترديد عبارة تدل على اعتزازه بنبي الإسلام محمد وهي:
كـان مـحــمـد كـل العـرب
فـليـكن كـل العـرب اليـوم محمــدا
أكد عفلق باستمرار وتزامن، على المستوى النظري والمستوى العملي، وعلى التلازم والتداخل بين العروبة والإسلام من جهة وبين العلمانيةوالقومية العربية من جهة أخرى، حيث يقول عام 1982:[7]
«بالنسبة إلى بذور فكرة البعث، التي كانت أرض سورية العربية موطنها الأول.. كانت بداية لقائين حاسمين في أثرهما العميق: لقاء مع الفكر العلمي العقلاني التحرري الحديث، ولقاء مع الإسلام العربي ورسوله الكريم، لقاء الحب والإعجاب والانتماء الحميم»
وقال ميشيل عفلق أيضًا في الجزء الأول من كتابه في سبيل البعث تحت عنوان «حول الرسالة العربية»:
«هذه الفترة التي انتقل فيها العربي من الجاهلية إلى الإسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده إلى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جدًا لم يلبث العرب بعدها أن غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ أن فقدوا بعد سنوات معدودة شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة المتماوجة من الشعوب، عادوا إلى عصبيتهم الجاهلية وإلى صراع القبائل وتنافسها، فعندما لا تتوافر الحياة القومية على شكلها الصحيح تعود الأنانية الضيقة والنظرة المحدودة. ولقد تلت هذا عصور الضعف، وتبدأ منذ أن فقد العرب هذا التجانس القومي وخير من يمثل هذه العصور هو المتنبي. قد يرى في هذا مفارقة لأن المتنبي شاعر القوة غير أنه في الحقيقة رد فعل لعصر الضعف، لذلك فهو يمثله تمثيلا صادقا.»
وفي الاقتباس التالي عن ميشيل عفلق يبين بصورة واضحة عن موقفه من الإسلام وتعلقه المبدئي به كدين وهوية وباعث للعرب بمسلميهم ومسيحييهم:
فالفكرة القومية المجردة في الغرب منطقية إذ تقرر انفصال القومية عن الدين. لأن الدين دخل على أوروبا من الخارج فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الأخروية والأخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم، ولا امتزج بتاريخهم، في حين أن الإسلام بالنسبة إلى العرب ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم إلى الحياة، وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر. وهو فوق ذلك كله أروع صورة للغتهم وآدابهم، وأضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع أن نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربيا ونهمله أو ننفر منه بصفته مسلما. قوميتنا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين اعضائها يهددها بالقتل فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذن كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم. وإذا كان الواقع لا يزال بعيدا عن هذه الأمنية، فإن على الجيل الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك بالكبرياء والمنافع، إذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب إليها
«وعندما أقول عروبة، تعرفون بأنني أقول: الإسلام أيضا، لا، بل الإسلام أولا: العروبة وجدت قبل الإسلام، ولكنه هو الذي أنضج عروبتنا، وهو الذي أوصلها إلى الكمال، وهو الذي أوصلها إلى العظمة، وإلى الخلود.. هو الذي جعل من القبائل العربية أمة عربية عظيمة، أمة عربية حضارية- فالإسلام كان، وهو الآن، وسيبقى، روح العروبة، وسيبقى هو قيمها الإنسانية والأخلاقية والإجتماعية. هذا هو الإخلاص للشعب، هذا هو حب الشعب، هذه هي الحقيقة[8]»
موقف البعث من الشيوعية
رغم تأثر عفلق في البداية بالنظرية الشيوعية، عاد ورأى فيها أداة معادية وهادمة للقومية العربية. وجاء تحديد موقف حركة البعث من الشيوعية على لسان ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في كتابهما القومية العربية وموقفها من الشيوعية على النحو التالي:
«في عام 1928 كنا طلابا نعجب بالوطنيين، ونعمل في صفهم، لأننا لم نكن نفهم القضية الوطنية يومئذ إلاّ أنها نضال بين الأمة والمستعمر (...) ثم انتقلنا إلى ديار الغرب للدراسة (...) ولم نكن نلق عطفا على قضيتنا إلا من بعض النواب الاشتراكيين والشيوعيين في البرلمان الفرنسي، فكان ذلك السبب الذي حببهم إلينا، دون أن نعرف شيئا عن نظرياتهم الاجتماعية والسياسية (...) والتقينا بالاشتراكية عن طريق الفكر والعلم (...) ثم لما عدنا إلى بلادنا حملنا إليها ـ دون انتباه ـ شيئا من هذا الغرب (...) فلنقل إذن أننا عدنا إلى الوطن نحمل الفكرة الاشتراكية كتعبير عن الغايتين اللتين وقفنا أنفسنا على تحقيقهما: مكافحة الاستعمار الأجنبي، ومكافحة الرجعية الداخلية بكل أشكالها. وقد فهمنا عن طريق تلك الفكرة، أن النضال ضد المستعمر لن يكون صادقا شاملا مجديا إلا إذا كان نضالا شعبيا (...) وفهمنا أيضا أن هذا النضال مرتبط أوثق الارتباط بحالة الأمة الفكرية والأخلاقية، وإنه لا بد لنجوع النضال ضد المستعمر من تهيئة انقلاب فكري يغير المفاهيم القديمة العقيمة (...) كنا بالرغم من نفورنا من الشيوعية... نرى فيها فائدة من جهتين: أولا، لأنها ضربة تصيب الاستعمار الأجنبي، وثانيا، لأنها ملقح ومحرك للفكر العربي الجامد الآسن تهزه بتطرفها هزا عنيفا. كان هذا شأننا نحوا من ثلاث سنوات، أي لغاية 1936، ثم حدث من الحوادث الخارجية والداخلية ما قادنا إلى إعادة النظر في كثير من أفكارنا (...) ونحن بالرغم من كل التحفظات التي أبديناها على الفكرة الاشتراكية، نقول أن ميلنا إليها كان صادقا وعميقا، وأنها كانت في وقت من الأوقات مناسبة ومجالا لإظهار ما فينا من نزعات للخير وتفكير في الحق (...) ولكن التبدل الأساسي هو في أننا بنتيجة تلك الأزمة صرنا نعرف بوضوح أن ما نشدناه في البلاد الأجنبية إنما هو موجود في أرضنا وفكرنا وتاريخنا، وأن ذلك القلق الممض الذي كان يساورنا ليس إلا دليلا على أن النفس العربية لا يمكن أن تستشعر الاطمئنان والحرية، وأن تبدع وتخصب إلا إذا استرجعت رسالتها، وتنفست في جوّ هذه الرسالة وهوائها (...) ونحن حريصون هنا أن نذكر ومنذ الآن ما كان للفلسفة الألمانية من فضل علينا في توجيه فكرنا لما هو أعمق من الظواهر المادية والعلاقات الاقتصادية في تفسير التاريخ ونمو المجتمع، وأنها كانت معدلة لأثر الفلسفة المادية فينا.[9]»
العلاقة مع الأمم الأخرى
يقوم فكر البعث على الاعتراف بما هو ايجابي وطرح ما هو سلبي مثل العصبيات. يقول عفلق عام 1956:
«اذن نحن لا نعترف إلا بما في القومية من ايجابي يبقى بعد طرح كل العصبيات وكل الأمور السطحية، إنه عبارة عن الرابطة الروحية والتاريخية بين أفراد الأمة الذين طبعهم التاريخ بطابع معين ولم يغلقهم على الإنسانية وباقي الأمم وإنما أعطاهم لونًا خاصًا وتجسيدا خاصًا لهذه الإنسانية لكي يكونوا جزءًا فعالًا منها ومبدعا ومتجاوبًا معها. هذه هي قوميتنا، لا تقوم على الحقد تجاه الأقوام الأخرى ولا تقوم على الحقد ضمن أبنائها. فالصراع الذي أقمناه في داخل أمتنا ليس موسومًا بالحقد وإنما هو موسوم بالحق والخير. والحب في حقيقته قاس لأننا عندما نحب أمتنا وأفراد شعبنا ونريد لهم المستقبل الزاهر والحياة الكريمة، لا نتهيب من استعمال القوة ضد كل الذين يحاولون دون هذا الارتقاء والنمو. فأصحاب المصالح المادية والمعنوية من حكام وغيرهم الذين يعرقلون وحدة الأمة يجب أن يناضلهم الشعب نضالًا عنيفًا وحاسمًا.[5]»
موقف عفلق من انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة
رغم ملاحقة عبد الناصر لعفلق واضطهاده للبعثيين عموما، حزن عفلق على قرار انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة الذي نتج عن انقلاب حيدر الكزبريوموفق عصاصة. وحسب إلياس الفرزلي، أحد رفاق عفلق في بيروت، كان موقف عفلق من الوحدة مبدئيًا فغضب من صلاح البيطار وأكرم الحوراني الذين أيدا الانفصال، وأصدر بياناً شجب فيه الانفصال. حمى موقف عفلق الحزب في سورية ومكنه من القيام بانقلاب 8 آذار. وأخرج بالموقف الذي أعلنه من بيروت الحزب من أيدي القائمين بالانفصال. كان عفلق شديد الوضوح. فبعد 28 أيلول تاريخ الانفصال، حصل انقلاب آخر في 22 آذار 1962. ولم يرض عبد الناصر بالانقلاب الجديد. وأيد عفلق عودة الوحدة من دون أن تحظى أخطاؤها برضاه. كان يعتبر أن هناك خندقين: خندق الرجعية والانفصالية وخندق الوحدة.[10]
أفكار عفلق والربيع العربي
حسب وزير الإعلام السوري السابق محمد أحمد الزعبي، فإن الأفكار والمبادئ البعثية التي ناهز عمرها نصف قرن، ما تزال أفكارا تنبض بالحياة، وتعبر عن حركات التحرر الوطني العربية، التي تجسدها ثورات الربيع العربي، ولهذا باتت الشعارات الثلاثة التي تمثل خلاصة فكر عفلق (الوحدة والحرية والاشتراكية) شعارات العديد من حركات التحرر في مختلف أقطار الوطن العربي. وجسب الزعبي، فإن الممارسات الخاطئة التي مارستها وتمارسها قوى وعناصر سياسية وأيديولوجية حملت وتحمل اسم البعث هي انحراف بيّن عن الفكر الحقيقي للبعث، وعن فكر قائده المؤسس ميشيل عفلق، ولا سيما فيما يتعلق بالممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان.[11]
مؤلفاته
بدأ عفلق الكتابة في تشرين الأول عام 1935 (مقالة عهد البطولة) وكان آخر ما ألفه هو «الديمقراطية والوحدة عنوان المرحلة الجديدة» عام 1989 في ذكرى إنشاء الحزب وانتهاء الحرب العراقية الإيرانية.
ومن مؤلفاته كتاب "في سبيل البعث"، وطبع عام 1977م، في جزئين، حيث جمع فيه معظم مقالاته ثم طبع منه عدة نسخ أخرى مضافا إليه جميع مقالاته بعد وفاته من خمسة أجزاء.
نقده
تعرض ميشيل عفلق لانتقادات من أطراف عدة، مثل السعودية والفرع السوري لحزب البعث ومن مراقبين اعتبروا أنه كان حالمًا أكثر مما كان واقعيا، وأنه لم يضع خطة للعمل على تحقيق الوحدة بل اكتفى بوضع الأساس الفكري.
الخلاف مع الفرع السوري لحزب البعث
بعد انقلاب الثامن من آذار ووصل البعث إلى السلطة من جديد، بدأ الصراع بين كتلتين داخل الحزب، الأولى تمثل القيادة التاريخية للحزب مثل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزازوشبلي العيسمي وغيرهم التي استُحضِرَت إلى الحكم بُعَيْدَ انقلاب آذار 1963، ومعهم بعض الضباط وعلى رأسهم أمين الحافظ والضابط النافذ آنذاك محمد عمران من جهة، وبين كتلة من الضباط البعثيين الصغار المنتمين في معظمهم للأقليات، وحسم هذا الصراع بانقلاب 23 شباط 1966 داخل الحزب، حيث أزاحت مجموعة من ضباط البعث ذوي الرتب الصغيرة القيادة التاريخية للحزب، فانتهت السلطة بالحزب الحاكم إلى يد مجموعة ضباط بعثيين يساريين متشددين أبرزهم صلاح جديدوحافظ الأسدومصطفى طلاسوسليم حاطوموعبد الكريم الجندي، ومعظمهم من الأقليات. تحالفت هذه المجموعة الصغيرة مع مجموعة من القيادات المدنية البعثية السنية، مثل نور الدين الأتاسي الذين عُين في منصب رئيس الجمهورية ويوسف زعين في منصب رئيس الوزراء وعدد آخر. بعد الانقلاب داخل أجنحة الحزب فر ميشيل عفلق إلى العراق. بعد ذلك، ونتيجة الخلافات الشخصية مع عفلق وزعماء الفرع العراقي للحزب، اتهم الجناح المنتصر في الفرع السوري عفلق «بسرقة» أفكاره من مؤسس حزب البعث زكي الأرسوزي. وبعد وصول صلاح جديدوحافظ الأسد إلى السلطة بحزب البعث عام 1966، حكم في دمشق على عفلق بالإعدام.[10]
الانتقادات الفكرية
بحسب محمد أحمد الزعبي، طبعت الانتقائية فكر ميشيل عفلق، مع أنها أكسبت أيديولوجية البعث المرونة والقابلية على التفاعل مع الأيديولوجيات الأخرى، ولكنها أبقتها، في نفس الوقت، في فلك الاتجاه المثالي الفلسفي.[11]
أنكرت أسرة ميشيل عفلق هذه الإدعاءات،[12] علمًا تحدث إياد عفلق نجل ميشيل عن رسالة كتبها والده قبل وفاته ووضعها في مصحف كان يحمله، وذكر فيها أنه شهد الشهادتين وأنه يموت على دين الإسلام، ووقّع في نهاية الرسالة باسم «أحمد ميشيل عفلق» بتاريخ 12 تموز 1980.[13] ولكن بحسب مركز بيركلي كانت أسباب ادعاءات اعتناق عفلق للإسلام بحسب أعضاء مجهولين من أسرة عفلق، أداة استخدمت من قبل صدام حسين لنأي البعثية عن المسيحية.[14]
وبين تأكيد البعض ونفي آخرين لإسلام عفلق، تحدثت مقالة نشرتها صحيفة دنيا الوطن عن إسلام عفلق، وفيها استنتج الكاتب شاكر الجوهري ثلاثة أشياء:
أن رسالة عفلق لم تكتب لغايات الدعاية السياسية، إذ أنها لو كانت كذلك، لما دست بين دفتي مصحف عفلق قرابة الست سنوات قبل أن يعثر عليها صدفة، ولم تكتشف إلا بعد مماته.
أنها غير موجهة لأحد بعينه، وإنما لمن يعثر عليها في حالة سقوط أو إسقاط الطائرة.
أن عفلق كان مسلما حقا، وأنه كان يقرأ القرآن الكريم.[8]