الخطاب الإصلاحي في البحرين (1950-1954)

الخطاب الإصلاحي في البحرين خلال الفترة الممتدة من 1950 إلى 1954 يمثل مرحلة هامة في تاريخ البحرين الحديث، حيث شهدت البلاد تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية، دفعت بالعديد من المثقفين والمفكرين إلى المطالبة بإصلاحات جوهرية في مختلف المجالات.[1]

حركة الإصلاح والنهضة في البحرين من منظور تاريخي

إن مفهوم الإصلاح في المجتمع يتضمن التغيير والتعديل نحو الأفضل في ممارسات السلوكيات مؤسسات متسلطة أو مجتمعات متخلفة. فالإصلاح هو منهجية وخريطة طريق وبرنامج عمل يلزم طبعها بالطموح دون السقوط في الحلم المتجاوز بلا حدود لمنطقة الممكن والمستفز لجدلية الطموح والواقع والإيمان بالإصلاح هو الإقرار والاقتناع بأنه لكل مبادرة إصلاحية ثمن سياسي واجتماعي ومالي. وقد استثارت فكرة الإصلاح ردود فعل مختلفة في الوسط العربي فمنها ما يقبل هذه الفكرة ولكن يرفض أن يكون مضمون الإصلاح من إملاء قوى أجنبية ومنها ما يقبل الفكرة و يطالب بالنظر في المضمون والأخذ بما هو صالح لنا. وإذا كان الإصلاح في المرجعية الفكرية الأوروبية يرتبط بتغيير الدولة فإن الإصلاح في المرجعية العربية الإسلامية يتطلب الرجوع بالوضع إلى الحالة التي كان عليها قبل طروء الفساد عليه.

إن أرخبيل البحرين يتألف من 84 جزيرة منها 51 جزيرة طبيعية و33 جزيرة اصطناعية ويقع في الجزء الشرقي من الوطن العربي. وتبلغ مساحة البلاد نحو 934 كم2 من اليابسة وتعتبر الدولة الصغرى في دول الخليج العربي الأخرى ويبلغ عدد سكانها 1,700,000 نسمة بحسب إحصاء عام 2020. ومنذ عام 1783 دخلت جزيرة البحرين تحت حكم عائلة آل خليفة وقد نالت البلاد استقلالها عن بريطانيا عام 1971 ولكن في عام 2002 وبعد استفتاء شعبي عام على ميثاق العمل الوطني تحولت البلاد إلى الملكية الدستورية وأصبح اسم البلاد مملكة البحرين.

ومن علامات الوعي السياسي في البحرين ظهور الحركة السياسية المطلبية في عام 1919 بقيادة الشيخ عبد الوهاب الزياني الذي التف حوله أهل البحرين وأظهروا معارضتهم للحماية البريطانية على البحرين التي تمت عبر معاهدتي الممانعة الأولى عام 1880 والممانعة الثانية عام 1892 والتي تنص على دخول البحرين تحت الحماية البريطانية في الشؤون الخارجية وما تبعه من تدخل بريطانيا في الشؤون الداخلية للبحرين عبر المعتمد السياسي البريطاني كليف ديلي حيث رفض المطالب التي تقدم بها الشيخ عبد الوهاب الزياني وتمثلت في رفض تطبيق القوانين المدنية والجنائية البريطانية في البحرين لأنها منافية للشريعة الإسلامية وتأسيس مجلس للإشراف على القضاء والمطالبة بإصدار لائحة إصلاحات وتأسيس جمعية وطنية وإصلاح جهاز الشرطة. ومع رفض ديلي للمطالب المقدمة لحكومة البحرين قام الشيخ عبد الوهاب الزياني في عام 1920 بإعادة صياغة المطالب وشملت انتخاب مجلس للشورى وتأكيد ضرورة الالتزام بالشريعة الإسلامية في القضاء والتزام بريطانيا باتفاقيتي الممانعة الأولى والثانية اللتين لا تتيحان لبريطانيا التدخل في الشؤون الداخلية للبحرين.[2]

غير أن الحكومة البريطانية رفضت جميع المطالب المذكورة ونفت الشيخ عبد الوهاب الزياني وزملائه إلى سجونها في الهند. ومن جانب الحكم في البحرين كان الشيخ عيسى بن علي آل خليفة مؤيدا للمطالب الشعبية كونها مشروعة وتوطد أركان نظام الحكم فاشتكى ديلي لدى حكومته البريطانية عدة مرات لتدخله المتكرر في الشؤون الداخلية مما حدا ببريطانيا تجنب التواصل مع الشيخ عيسى واعتماد تواصلها مع ولي العهد الشيخ حمد بن عيسى الذي فوضه والده لإدارة بعض الأمور في الجزيرة بل إن بريطانيا قد أعلنت عزل الشيخ عيسى في عام 1923 إلا أنه بقي في الحكم حتى وفاته عام 1932.[3]

وفي يناير 1921 عينت بريطانيا الوكيل المعتمد السياسي البريطاني الجديد الميجور كليف ديلي الذي أعلن منذ بداية تعيينه أنه سينفذ كل الإصلاحات الإدارية المنصوص عليها في الاتفاقيات بين البلدين وفي 18-6-1921م تسلم رئاسة بلدية المنامة ولي العهد آنذاك الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة كما تولى الإشراف على الإصلاحات الإدارية. وفي 26-5-1923م وصل المقيم السياسي البريطاني بالوكالة ستيوارت نوكس وعقد اجتماعا تاريخيا بحضور الوجهاء وممثلي الفئات المختلفة وأعلن عن تشكيل إدارة جديدة وتنفيذ الإصلاحات الإدارية برئاسة الشيخ حمد. وكانت مهمة المعتمد السياسي البريطاني هي السعي لتنفيذ السياسة البريطانية القائمة على إجراء الإصلاحات في البحرين لتكون أكثر استقرارا بما يحفظ المصالح البريطانية ويجنب البحرين خطر الاضطرابات المستمرة بما قد يفسح المجال لقوى أخرى للتدخل.[4]

ومن أولى مقدمات الإصلاح السياسي والإداري في البحرين تزايد الوعي السياسي في مطلع القرن ال20 وذلك إبان حكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وتحديدا بين عامي 1900 و1932 حيث شهدت البحرين ظهور حركات إصلاحية قادها التجار والمتعلمون وطالبت بالإصلاح والمشاركة في الحكم والتخلص من المستعمر البريطاني إلى جانب التمسك بالحكم القبلي المتمثل في شخص الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الأمر الذي جعل الشيخ عيسى يوافق الأهالي على مقترحهم بتشكيل لجنة أهلية استشارية تضع حدا لتدخل المعتمد السياسي البريطاني واستبداده.

أما على الصعيد التعليمي فإن أجواء الحرب العالمية الأولى قد أثرت في نمو الوعي القومي العربي في عدد من الأقطار العربية ومن بينها البحرين ومن ثم توجه أفراد التيار الصاعد المناهض للاستعمار إلى نشر الأفكار القومية في أوساط الشباب بهدف تعزيز الوعي السياسي والالتزام الفكري لديهم بقضايا الأمة العربية. ولذلك تنادى الأعيان الوطنيون لتأسيس مدرسة الهداية الخليفية في عام 1919 بإعتبار أن العمل التعليمي هو القناة التي يمر عبرها الفكر الوطني وهو جوهر بناء الفرد المواطن والطريق الأسلم لنشر الوعي. وبفضل ما كانت مدرسة الهداية الخليفية ودورها الرياضي في التعليم والتنوير الحضاري لعبت الحركة القومية دورا مهما ومؤثرا في نشر الأفكار الإصلاحية بين الشباب البحريني الطامح للتغيير.[5]

وتبرز ملامح خيوط مصادر الوعي الوطني والقومي في البحرين من خلال حقيقتين مهمتين:

الحقيقة الأولى أن عثمان الحوراني آخر مديري مدرسة الهداية الخليفية كان في الأصل مناضلا قوميا عربيا أما الحقيقة الثانية فتتمثل في طبيعة العلاقة التراتبية بين عثمان الحوراني وزملائه المدرسين السوريين والعراقيين عام 1929 ومع زميلهم ساطع الحصري المرجع الفكري للحركات القومية العربية. لقد أدركت الإدارة البريطانية خطورة هؤلاء المعلمين على سياساتها ومصالحها في مستعمراتها الخليجية ولذلك أصدر مستشار الإدارة البريطانية بتاريخ 6-2-1930م قرارا بطرد المديرين عثمان الحوراني وعمر الحوراني في نفس اليوم.

ولقد لقي انتشار الأفكار القومية والوطنية في البحرين مقاومة شديدة من المستعمر البريطاني ولذا أوصت السلطة المعتمر بتصفية الحركة الوطنية تمهيدا لعزل الحاكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة وإحداث تغيير في أشكال الحكومة نظرا لما كانت تؤمله من العثور على النفط.

وعلى النقيض من توقعات المستعمرة البريطانية استمر الوعي الثقافي الذي شمل معظم مناطق البحرين في نموه وامتداده وكانت مظاهره واضحة في المؤسسات الثقافية والأدبية التي نشأت في بداية القرن ال20 وتمخض هذا النشاط الإصلاحي عن أربع مدارس أهلية وأسفر أيضا عن افتتاح مدرستين لأبناء الطائفة الشيعية في البحرين وهي خطوة عبرت بجلاء عن تلاحم أبناء الوطن الواحد وتصديهم لسياسة الإنجليز الطائفية التي كانت تسعى دائما إلى بث التفرقة بين أبناء الشعب من أجل السيادة. وإجمالا فإن هذا النشاط الحضاري الأهلي يدل على وعي مجتمع البحرين في مطلع القرن ال20.

لقد شهدت البحرين حركة إصلاحية منذ العشرينيات في الأعوام 1921 و1923 و1938 قالها المعلمون والطلبة والتجار مطالبين بالإصلاحات و وقف التدخل الأجنبي وقد اعتبرت تلك الحركة بداية مرحلة الحركة الديمقراطية في البحرين وقد نتج عن حراك عام 1923 أدت إصلاحات أدت إلى إرساء مفهوم الدولة الحديثة. أما في عام 1938 فقد شهد أول حركة منظمة حقيقية قادتها شريحة جديدة على المجتمع البحريني وهي عمال النفط و بمطالب جديدة أيضا على المجتمع البحريني وشملت مطالب وهم تأسيس النقابات العمالية.

وخلال ثلاثينيات القرن ال20 كان للتطورات السياسية في الكويت ودبي وتأثير مباشر على الوضع السياسي في البحرين وذلك بسبب الترابط الوثيق بين أبناء الخليج العربي في جميع مجالات الحياة. والجدير ذكره هنا أن القوميين العرب والنقابات العمالية كانوا امتدادات سياسية ونقابية وشعبية واحدة منذ منتصف القرن ال20 وحينما انتصرت الثورة المصرية في 23-7-1952م توجهت لمنح الدعم لحركات التحرر العربية مؤكدة أن قوة العرب في توحدهم وأن هذه الوحدة هي مشروع سياسي لقيام دولة عربية كبرى وهذا يتناقض مع مصالح الدول العظمى في المنطقة.

وإذا كانت فترة الشيخ عيسى كبير تمثل بداية العهد المؤسسي في البحرين فإن عهد ابنه الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة قد تزامن مع نشأة النظام الإداري الحديث منذ عام 1924 وتطور التعليم النظامي الأهلي للبنات في البحرين 1928 والتوقيع على امتيازات التنقيب عن النفط وبدء تدفقه عام 1932 كما شهدت البلاد تطورا على المستويين العمراني والصحي.

ومع اكتشاف النفط عام 1932 أصبح النفط يمثل مصدر الدخل القومي الأول فتغيرت تركيبة طبقات السكان في المجتمع البحريني وتشكلت الطبقة الوسطى في الأربعينيات من القرن ال20. أما على صعيد التجارة فقد كان المجلس العرفي الذي تم تشكيله عام 1920 النواة الأولي نشأت غرفة تجارة البحرين وكان الركيزة الأساسية للنمو والطبقة البرجوازية التي احتضنتها جمعية التجار العمومية عام 1939.

وقد تميزت الحركة السياسية في عهد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة بأن المطالب المرفوعة كانت تخص مؤسسات الدولة ويمثل هذا نمطا جديدا في الحراك السياسي فقد ظهرت حركة مطلبية في الفترة ما بين 1924 1935 بسبب التناقض في النظام القضائي واتسمت الاضطرابات التي حصلت في عام 1938 بوحدة شعبية شاملة بين طوائف المجتمع البحريني وتمثلت المطالب في الشتاء مجلس للشورى وإصلاحات في القضاء والتعليم وأن يكون للبحرينيين الأفضلية في العمل في الوظائف النفطية.

لقد ورث الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى الكبير حكم البحرين عام 1942 بعد وفاة والده وكالة البحرين قد وضعت اللبنات الأساسية لتشكل الدولة الحديثة ودخلت مرحلة التطوير المؤسسي ومن أبرز سماتها دخول المرأة البحرينية لسوق العمل بعد أن حظيت بفرصة التعليم وبروزها في الحراك الاقتصادي ومشاركتها أيضا في الحراك الاجتماعي ونشر الوعي في المجتمع البحريني كما كان للمرأة مشاركة في الأحداث السياسية التي كانت تمر بها البلاد بدءا بالمطالبة بالاستقلال من الحماية البريطانية في الفترة من 1880 حتى 1971.

وبفضل تنوع مصادر الدخل القومي الصناعية والمصرفية وتنفيذ مشاريع البنية التحتية فقد أسهم النمو الاقتصادي في نهضة مرحلية شملت قطاعي التعليم والصحة مما أثر على النمو السكاني وأسهم في زيادة كتلة عدد سكان البحرين وما لذلك من مردود إيجابي وإن كل ذلك قد أسهم في نمو الوعي السياسي وبروز نخبة من الرواد المثقفين الذين أخذوا على عاتقهم نشر مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والاستقلال من القوى الأجنبية ومن أبرزهم الشيخ محمد بن إبراهيم آل خليفة والشيخ محمد بن عيسى آل خليفة و عبد الله الزايد وحسن جواد الجشي ومحمد علي التاجر وإبراهيم العريض وعبد الرحمن المعاودة وكانت منابرهم من الجرائد والمجلات المحلية مواكبة لحركة النهضة وحاضنة للتيارات السياسية المتحركة بين الفينة والأخرى وللفكر القومي العروبي في تلك المرحلة.

أما الحاضنة الأخرى للحراك السياسي بالإضافة إلى الجرائد فقد كانت الأندية الثقافية والرياضية كنادي العروبة الثقافية و نادي النجمة الرياضي فقد كانت تلعب دور الصالونات السياسية التي تطرح فيها آخر الأخبار والمستجدات في الساحتين العربية والمحلية وتتبلور فيها أهم المطالب الشعبية التي تنبري بين الحين والآخر في قائمة مطالب شعبية.

ويلاحظ في البحرين تزامن الحراك السياسي المحلي مع حركات الوعي والتنوير العربية والدخول في إطارات خارجية كالمد القومي وكل ما تم عرضه من مخاضات تاريخية مهدت لاستيعاب البحرينيين للأيديولوجيات العالمية والقومية ومنها الحركة القومية وقد مرت الحركة المطلبية في البحرين عام 1937 بمطالب داخلية صرفة حددت في إنشاء مجلس وطني وإصلاحات في مؤسسة النفط الذي اكتشف في البحرين عام 1932. ومع انتشار التعليم واكتشاف النفط وظهور الأندية واتصال الشباب المتعلم واختلاطه بالشعوب العربية في مصر والعراق وسوريا توافرت تربة خاصة لتمدد التيار القومي وكان للصحافة البحرينية في تلك الفترة دور كبير في إيقاظ المشاعر وعرض وجهات النظر المؤيدة للقومية العربية والمنتقدة للسياسات الاستعمارية ولوجود الشركات النفطية الأجنبية وكل ذلك يشير في المحصلة إلى بدايات مبكرة لنمو الوعي القومي في البحرين.

وبقيت البحرين فترة الحرب العالمية الثانية ما بين 1939 و1945 دون حراك سياسي يذكر مما أسهم في إنشغال أبناء البحرين بمتابعة الأحداث العالمية التي ترتب عليها نمو الوعي المفاهيم الوطنية والهوية والقومية كما أن الظروف السياسية الخارجية مثل حركات التحرر في العالم العربي والحركات العسكرية العالمية كالحرب العالمية الثانية كان لها أثرها البالغ في نمو الوعي وبروز الفكر القومي. وقد كان التطور الثقافي في الساحة التي أسهمت في حضور مفاهيم عالمية وإقليمية كمفهوم الرأسمالية والإمبريالية والاشتراكية والشيوعية ومفهوم الوحدة والقومية العربية. ومع أن تلك الفترة ما بين 1939 و1945 قد شهدت توقفا نسبيا للمطالب الشعبية فإنها كانت الفترة ذاتها التي اختزلت الوعي والنضوج السياسي للعقلية البحرينية تزامنا مع ظهور قيادات قومية عربية أصبح وجودها يمثل قيمة وطنية عالية لدى الجماهير.

وفي عام 1953 أي في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حدثت بعض المناوشات بين أتباع الطائفتين ودعا زعماء السنة والشيعة لمناقشة الموضوع إنهاء النزاع الطائفي. وفي سبتمبر عام 1954 عمل سواق التاكسي والباصات إلى إعلان إضراب احتجاجا على فرض الحكومة للتأمين على سياراتهم لدى شركات التأمين الأجنبية وبكلفة عالية وشارك في الإضراب السنة والشيعة وهو ما وفر فرصة للمعارضة لإثبات قدرات التنظيم الجديد. وأسس صندوق التعويضات التعاوني وكان عبد الرحمن الباكر أحد زعماء هيئة الاتحاد الوطني لاحقا أول مدير لصندوق التعويضات ولم يكن مدلول هذه الخطوة تجارية فقط فقد كان يعني قيام تعاون لأول مرة بين أبناء الطائفتين.

وحيث أن الحكومة فشلت في استيعاب عوامل الزخم السياسي الجديد في البلاد فقد رأت في دور الباكر في هذه الحوادث الجديدة تحدي لسلطاتها وهددته بسحب جواز سفره وحرمانه من الجنسية. وقد كان رد فعل مؤيدي الباكر وغيرهم من العناصر الواعية هو عقد سلسلة من الاجتماعات العامة للمطالبة بإيجاد جبهة متحدة لوضع حد لتسلط المستشار البريطاني تشارلز بلغريف. وقد أسفرت هذه الاجتماعات عن تشكيل هيئة الاتحاد الوطني المكونة من ثمانية مواطنين من الشيعة والسنة مناصفة حظيت بتأييد شعبي عارم. وفي نوفمبر 1954 طالبت الهيئة بإنشاء مجلس تشريعي يمثل كل فئات الشعب بالانتخاب الحر لكن الحكومة رفضت هذا المطلب في حين تنازلت بالنسبة للمطالب الأخرى ومن ثم قررت الهيئة إعلان الإضراب العام في البلاد مما دفع الحكومة للإعلان عن بعض الإصلاحات لكن الهيئة طالبت بإصلاحات أكثر جذرية.

ولذا توجه الخطاب الإصلاحي في البحرين في تلك الفترة التاريخية نحو المطالبة بإصلاح الأوضاع الاجتماعية للمواطنين من الداخل والحد من طموحات الاستعمار في الهيمنة على مقدرات البلاد. وضمن هذا السياق التاريخي لعبت الصحافة والمجلات الوطنية المحلية دورها في تدشين مفاهيم القومية والعروبة ومنها مجلة القافلة ومجلة الميزان ومجلة الخميلة ومجلة الوطن ومجلة صوت البحرين التي برزت فيها المقالات الدورية المساهمة في انتشار الفكر القومي العروبي في البحرين.

ونخلص مما سبق إلى أن علامات الوعي السياسي في البحرين قد ظهرت في بداية القرن ال20 مع بروز الحركة السياسية المطلبية في عام 1919 بقيادة الشيخ عبد الوهاب الزياني الذي التف حوله أهل البحرين الذين أظهروا معارضتهم للحماية البريطانية على البلاد. وقد أسهمت شكل الدولة الحديثة ودخول البلاد مرحلة التطوير المؤسسي وتعاظم الحراك الاقتصادي والاجتماعي في نشر الوعي في المجتمع البحريني. وقد لعبت وسائل الإعلام المحلية إلى جانب الأندية الثقافية والرياضية دورا مهما في التعبئة السياسية لأفراد الشعب وتزامنت تلك الجهود مع تصاعد المد القومي العروبي في المنطقة العربية واحتضان البحرينيين للأيديولوجيات العالمية والقومية ومنها الحركة القومية العربية حيث تصاعدت الحركة المطلبية محلية والمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة وإجراء إصلاحات عميقة في نظام الحكم.

ومع أن الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين حينئذ أبدا مرونة شديدة في التعاطي مع المطالب الإصلاحية الشعبية فإن القوى الاستعمارية الأجنبية رفضت هذه المطالب بصفتها تهديدا مباشرا لهيمنتها غير أن ممثلي الحركة الإصلاحية في البلاد أصروا على تلبيتها.

تحليل الخطاب الإصلاحي في مجلة صوت البحرين

صدرت مجلة صوت البحرين وهي مجلة أدبية إجتماعية شهرية في عام 1950 على أيدي نخبة من المثقفين والأدباء أطلقت على نفسها لجنة من شباب البحرين وكانت هذه المجلة إحدى ثمرات الدور الرائد للحركة الأدبية الحديثة لجريدة البحرين. وقد جاء إصدارها لتلبية احتياج البلاد إلى مجلة تعكس صورة حقيقية لما يقبع في مشاعرنا من خواطر وأعمال نهدف منها إلى تهيئة أنفسنا لحياة ومستقبل أفضل كما يقول إبراهيم كمال في افتتاحية العدد الأول في ظل حكومة تنتهج نهجا ديمقراطيا يبيح حرية القول والفكر فنحن نستطيع أن نقول للمحسن أحسنت و للمسيء أسأت دون أن نطمع في إثابة أو نخشى من وعيد. ونظرا لأن التقويم المعتمد في البحرين في تلك الفترة هو التقويم الهجري فقد كان رقم العدد هو رقم الشهر الهجري المطابق له.[6]

و وكان الهدف من صدور المجلة هو انتشال شباب البحرين من حياة الخمول والكسل كما يقول محمود المردي سكرتير التحرير ليحذو حذو الشباب العرب في البلدان الأخرى الذين وضعوا اللبنات لنهضة فكرية. وقد حظيت هذه الخطوة بمباركة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين في تلك الفترة الذي وعد بتقديم كل ما يلزمنا من عون وتشجيع لتكون المجلة مرآة صادقة لآمالنا ومشاعرنا في الإصلاح. وقد صدر 46 عددا من مجلة صوت البحرين على مدار سنوات صدورها من أغسطس 1950 حتى يوليو 1954 وتعاظمت شعبية المجلة مع زيادة عدد الأقلام المشاركة في تحرير موادها الصحفية. وكانت المجلة تطبع في بيروت ليصار إلى شحنها وتوزيعها في البحرين وفي بلدان خليجية أخرى. وتمثل مجلة صوت البحرين على أما فارقة في تاريخ الصحافة البحرينية إذ حفلت أعدادها بكثير من الموضوعات المتنوعة ذات الطرح المتزن واللغة الرصينة وتميزت بالتنوع والشمول من حيث معالجة القضايا الفكرية والأدبية والتاريخية والسياسية والاجتماعية. وتضم أسرة التحرير كلا من عبد الرحمن الباكر وعبد العزيز سعد الشملان وهما عضوا هيئة الاتحاد الوطني وحسن جواد الجشي رئيس المجلس الوطني البرلمان عام 1973 وعلي التاجر وغيرها من الأدباء والمثقفين.

ومن حيث المحتوى فإن المجلة تعبر بصدق وعفوية عن مجتمع البحرين في خمسينيات القرن ال20 وتعد مرآة تعكس أوضاع المجتمع البحريني وشؤونه وتوجهاته الأدبية والفنية الاجتماعية والسياسية. وقد أسهمت مجموعة من الأدباء والكتاب في داخل البحرين وخارجها من الأقطار العربية في تعميق الوعي الثقافي والسياسي والذوق الأدبي للقراء وكان النفس الوطني والقومي بارزا بوضوح في موادها وفي مجمل المشهد السياسي والاجتماعي للبلاد.

نتائج التحليل

أساليب الخطاب الإصلاحي

برز الخطاب الإصلاحي للمرة الأولى في العدد الخامس من مجلة صورة البحرين وتحديدا في مقال بعنوان القومية العربية في مهب الرياح للكاتب تقي البحارنة حيث عبر الكاتب عن ضرورة الإصلاح للمجتمع العربي المعاصر في تلك الفترة تحديدا. وقد استخدم الكاتب أسلوب المحاكمة العقلية لإقناع القارئ بالاعتراف الرأي وضياع النظرة الثاقبة لدى الحركة القومية العربية وعدم إدراكها لحقيقة ارتباط عناصر الوعي العربي بالثقافة الإسلامية وعدم استيقاظها بعد من صدمة الحياة الأجنبية الطارئة. كما استخدم أيضا الأسلوب الترغيبي حينما تواصل الغاية التوحيدية للمجتمع الإسلامي الصحيح في تسويق الفكرة الداعية إلى توحيد الجهود المبعثرة لأبناء الأمة العربية نحو تحقيق الغايات المشتركة.

ومن واقع ارتباط الإصلاح السياسي في المجتمع العربي بضرورة نهضة الأمة العربية من سباتها العميق يستخدم الكاتب رياض الأزهري الأسلوب المنطقي للبرهنة على أن جوهر النهضة يتمثل في إدراك العرب لحقوقهم وواجباتهم العامة وتنشئة الأجيال العربية على التثقف والعمل بها وأن أساس هذه النهضة يكمن في التربية الوطنية للمواطن الصالح التي تضع نصب عينيها غرس روح المحبة للتاريخ العربي والأرض العربية والحياة العربية. ومن منطلق الوطنية الصحيحة يناشد الدوير والحادي الأثرياء بتبني المشروعات الجليلة النافعة لمواطنيهم كبناء المعاهد والمستشفيات والإنفاق على البعثات العلمية في الخارج غير أن الأزهري يلجأ إلى الأسلوب العاطفي في الإقناع حينما يدعو المواطنين إلى أن يسعى إلى تشييد ملجأ يضم العجزة والمتسولين فيقضي بذلك على التسول ويحفظ كرامة وطنه ويصون ماء وجه أمته أمام هؤلاء الأجانب الذين يعدون التسول من أكبر النقائص.

ويتضح مما تقدم أن دعاة الخطاب الإصلاحي في مجلة صوت البحرين استخدموا الأسلوب المنطقي الترغيبي في نشر أفكارهم الرامية إلى إصلاح المجتمع وقاموا بتوظيف أسلوب التفكير التحليلي وتفكيك الفكرة إلى عناصرها وإدراك علاقاتها الداخلية وتنظيمها. وهذا الأسلوب أكثر إقناعا للناس ذوي المستوى التعليمي المنخفض والخبرة السياسية المحدودة من أسلوب التفكير التركيبي المستخدم في مخاطبة الفئات الأكثر تعليما وخبرة حيث يتم دمج المفاهيم والأفكار والآراء وتطبيقها في مواقف معرفية جديدة للخروج بفكرة ذات قيمة عالية.

محتوي الخطاب الإصلاحي

في معرض توضيح آليات الإصلاح المجتمعي ووسائله يناقش بن علي الفكرة مؤكدا أن المصلح لا يمكن أن يواكبه النجاح إلا إذا ترافق في عرض الفكرة الإصلاحية التي يدعو إليها ولم يجابه بها الجمهور مجابهة يستثير بها حنقه منوها بأن المصلح الاجتماعي يسعى إلى تغيير العادات والتقاليد والنظم المتحكمة في مجاري الحياة في مجتمعه. وحيث إن الأمة في حاجة إلى من يزلزل كيانها وينتهز الفرص لإماطة اللثام بحذر على أوضاعها البالية وتقاليدها السقيمة فإن استجابة الشعب لهذه الدعوة تتطلب رجالا مخلصين ثابتي العزاء وقائدا مقداما تأخذ بزمام الشعبي وينقله في طفرة فجائية إلى طور جديد من أطوار الحياة مرددا أصداء صيحة الفيلسوف فولتير وصرخات ديدرو التي مهدت للثورة الفرنسية الكبرى. فما من نهضة شاملة حدثت في التاريخ إلا وجدناها تمر في طور الإرهاصات يليه طور الإنقلاب ثم يعقبهما الاستقرار.

لقد أدرك المنادون بالإصلاح الاجتماعي في البحرين في منتصف القرن ال20 أن تحقيق العدالة الاجتماعية يجب أن يكون أساس إصلاحهم وأن الخطوة الأولى لتحقيق هذه العدالة هي رفع مستوى الطبقات الفقيرة وصيانة حق كل فرد من أبناء الأمة وقد لمس هؤلاء المصلحون اتجاهات جديدة ترمي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين ومن بينها مشروع تعميم المجانية في المدارس الإبتدائية ومشروع مكافحة السل والأمية.

وحيث إن الفترة التاريخية قيد الدراسة من ألف و تسعمئة وخمسين حتى ألف وتسعمئة وأربعة وخمسين ترافقت في البحرين مع بوادر خطوات إصلاحية في عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة فقد انبرى كتاب مجلة صوت البحرين في عام ألف وتسعمية وواحد وخمسين أي بعد مرور عام على صدورها لتوضيح وجهة نظرهم لمفهوم الإصلاح بأنه عملية بناء وليس عملية ترميم وترقيع فنحن نكون سلبيين حينما نهدم القيم والأوضاع القائمة ثم لا نعطي بدلا منها قيما وأوضاعا جديدة فذلك هو التقهقر والفوضى. أما بالنسبة لمتطلبات الإصلاح فإن سياسة الإنشاء والإصلاح تحتاج إلى مناهج شاملة ومدروسة تتناول أوضاع الحياة المختلفة كما وكيفا وتستفيد من عبر التاريخ وتجارب الأمم واكتشافات العلم وكذلك إلى فهم نافذ عميق لروح الأمة وتاريخها واتجاهاتها النفسية والعقلية مثلما يحتاج للكفاءات العلمية والإخلاص. أما عن جوهر الإصلاح فإن الإصلاح الحقيقي يجب أن يتجاوب مع عوامل تكوين الأمة وهي اللغة والتاريخ والثقافة والدين.

وفي إطار تحديد مسوغات الإصلاح على المستوى القومي العربي يشير إبن ثابت إلى أن حاسة النقد هي حافظ التطور وهي منشأة المرونة التي تتمتع بها الحياة وليس الخير في الواقع الذي يتمثل في الإقطاعية المسعورة الجاثم على قلب البلاد العربية أو في الأمراض المستوطنة أو في البرامج التعليمية الاستعمارية أو الأمية النكراء أو في الطائفية الهدامة التي تقسم العرب وإنما الخير في التطور المبدع لا في الواقع القائم.

وضمن ذلك السياق فسرت الأحداث الثورية المناوئة للاستعمار في الأقطار العربية في سوريا أو في العراق ومصر عام 1952 بأنها اتخذت من النقمة المتأججة في أوساط الشعب على أوضاعه الفاصلة مادة أولية لدعم تلك الانقلابات بينما تمثل رد فعل القوى الاستعمارية وركائزها الرجعية المخدوعة على تحركات الجماهيرية في طعن المفاهيم الشعبية وتجريح المطالب الديمقراطية التي بذل الشعب الكثير من دمه وجهده في سبيل تحقيقها. والحقيقة هي أن الشعب العربي في كل أقطاره لم يمارس النظام الديمقراطي في تلك الفترة وأن الانتخابات البرلمانية استغلت ضعف الوعي السياسي عند أبناء العرب لصالح الإقطاعيين وأن الاصطدامات الدموية بين طلائع القوى المناضلة والحكومات الديمقراطية اللعت من وحي الشعور بالاعتراف في واقع واحد وهو قيام الحكم الشعبي القومي التقدمي الاشتراكي.

ومما سبق تبرز ثلاث حقائق مهمة في الأفكار السائدة حول الإصلاح في تلك الفترة وهي:

  • الحقيقة الأولى: إن طلائع الحركة القومية العربية لم تكن تمتلك درجة من الوعي السياسي تؤهلها لتوجيه أبناء الأمة العربية توجيها صحيحا. ويعزى ذلك إلى عدم اتفاق فصائلها على كيفية إعداد مناهج الإصلاح ورسم خريطة الحركة الإصلاحية وتذبذبها بين الأخذ بالنظم والمبادئ الأوروبية المعاصرة في تلك الفترة أو تطبيق المبادئ الإسلامية المناسبة لروح ذلك العصر ومتطلبات الإصلاح السياسي وإلى عدم إدراكها لحقيقة الارتباط بين عناصر الوعي العربي والثقافة الإسلامية.
  • الحقيقة الثانية: إن ضعف مستوى الوعي السياسي لدى أتباع الحركة القومية العربية وأنصارها في بلاد العرب قد تتجلى أيضا في عدم استيعابها الصحيح لمفهوم الوطنية وعلاقتها الجدلية بمفهوم القومية فإذا كانت القومية الصحيحة وليس الوطنية الصحيحة تقوم على غرس الروح العربية للتاريخ العربي والأرض العربية والحياة العربية لدى أبناء الجيل الصاعد في البلدان العربية فإن الوطنية الصحيحة لا تتمثل في تبني الفئات الشعبية للمشروعات الحكومية الرامية لنشر العلم والصحة والقضاء على البطالة والفقر في صفوف المواطنين مسؤولية تحقيق هذه المهام تقع على الحكومة وبرنامجها السياسي ذلك أن أساس الإصلاح القائم على التربية المدنية الصحيحة هو تحقيق العدالة الاجتماعية ومن ثم فإن دور الفئات الشعبية يجب أن يتضح بجلاء في دعم وليس تبني المشروعات الحكومية الرامية إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة والكادحة والقضاء على الأمية أو الفقر.
  • الحقيقة الثالثة: يتجلى قصر النظر السياسي لدى ممثلي الحركة القومية العربية في ضعف استيعابهم لعبر التاريخ وتجارب الأمم فإذا كانت سياسة الإصلاح الحقيقي هي منهج شامل لإعادة بناء الواقع المعيشي الأمر الذي يتطلب تغيير عادات أبناء المجتمع وتقاليدهم فكيف يمكن مطالبة الشباب زلزلة كيان الأم أو أخذها في طفرة فجائية إلى طور جديد من أطوار الحياة إذا كانت هذه التقاليد والعادات الموروثة تترسخ مع مرور الزمن وهل يمكن مطالبة الحركات الطليعية المعادية الاستعمار بإقامة الحكم الشعبي القومي التقدمي الاشتراكي إذا كانت لا تملك وعيا كافيا بمفاهيم القومية والتقدم والاشتراكية وما تزال لم تحسم قرارها بعد فيما يتصل بالتعلق بركب الحضارة الغربية أو تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية ولعل محدودية الأفق السياسي لدى الحركة القومية قد جاءت لضعف الوعي السياسي لدى قيادات الحركة العربية الذي تسبب في تجزئة البلاد العربية بين الدول الاستعمارية الغربية في بداية القرن ال20.

الأطر والإحالات المرجعية للخطاب الإصلاحي

لم تبرز مسألة الحكم الصالح الناتج من تطبيق مبادئ الإصلاح الحقيقي الشامل سوى في السنة الأخيرة من صدور المجلة وتحديدا في سنة 1373 للهجرة يمكن تفسير ذلك بأن الفئات المناصرة لحركة القوميين العرب في البحرين المتأثرة بأفكاره المناوئة للاستعمار استشعرت الأخطار والتحديات التي كانت تهدد ثورة 23-7-1952م بعد مرور سنة عليها ومراوحة الثورة بين الديمقراطية وإشراك الشعب في الحكم حينا والاستبداد والتفرد في اتخاذ القرار حينا آخر. ولذا ارتأت هذه الفئات مصارحة جمهورها بجوهر الإصلاح الذي تنشده وخصائص الحكم الذي يتولى تنفيذه.

ويمكن القول إن الأجواء التي صاحبت المناقشات حول قضية الحكم الصالح والحرية المتاحة للمشاركين فيها قد مهدت إلى رفع مجموعة من المطالب الشعبية تحت مسمى مطالبنا العادلة إلى الحاكم الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة لكنها أدت في نهاية المطاف وبسبب الصراحة والجرأة في انتقاد الأوضاع السياسية في تلك الفترة التاريخية العصيبة إلى إغلاق المجلة.

وقد ورد في عرض المناظرة أؤمن بالمستبد العادل في العدد الثاني للمجلة للسنة الرابعة أن الحكم الاستبدادي نقمة ونعمة فإذا كان الحاكم ظالما فإنه يكون نقمة على أمته بما يهدر من حريات وحقوق أما إذا كان عادلا رحيما فإنه يكون نعمة على أمته لأنه يدفعها سريعا إلى القوة والاستقلال. لكن الحكم النيابي أفضل من الحكم الاستبدادي لأنه ينهض على أربعة أركان هي جمهور من الناخبين الواعين وانتخابات حرة نزيهة وحكومة منبثقة عن الناخبين ورأس الدولة لا يتعدى حقوقه. وبتحليل محتوى المناظرة يتبين أن الحكم الديكتاتوري العادل ممثلا في الزعيم مصطفى كامل الذي خلص أمته من الجهل والفقر والمرض فأصبحتم هيبة بين الأمم هو الحكم النيابي الصحيح الذي يجب أن تسعى الشعوب العربية إلى تحقيقه.

غير أن هذه الأفكار لم تجد تأييدا لدى البعض فقد أشار فرسخ عام 1373 للهجرة إلى أن المستبد العادل يكفر بكل برنامج لا يضعه بنفسه ولا يؤمن بمحاسبة أحد له إلا نفسه ويستدل فرسخ على رأيه بالدولة الفاشية إلا أنه يستدرك بالقول إن الديكتاتور إنسان مثلنا يخطئ ويصيب فكم من حاكم كان نابليون وهتلر بدأ مخلصا وانتهى مجرما وهذا طبيعي فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. غير أن الواقع أظهر فشل ديكتاتورية نابليون وموسوليني وهتلر كما أن الشعب الذي لا يدرك أهدافه السياسية يحتاج للبرلمان لمراقبة أداء الحكومة وتفعيل الديمقراطية واكتساب الوعي أما الشعب الواعي كما بسويسرا أو إنجلترا فإنه يحتاج إلى البرلمان والأحزاب ويعبر عن إرادته فقط أما الروح المعنوية للشعب فلا ضمان لها غير الحرية والديمقراطية.

إلا أن هذه الحجج على الرغم من واجهتها ورصانتها لم ترق لأحد كتاب المجلة الذي علق قائلا إنني أرحب المستبد العادل الذي يقضي على الفتنة في مهدها قبل أن يعم خطرها. فالشريعة الإسلامية تحاسب الحاكم المستبد إذا حاد عن العدل. وذكر بأن الدول الديمقراطية تبادر إلى وأد نظامها النيابي عند إعلان الحرب وتأخذ بنظام المستبد العادل فتفرض الحكم العسكري وبأن النظم الديكتاتورية سقطت بسبب الخصومات القائمة بينها وبين الدول المعادية لها في الحرب وأن الحل هو التمسك بنظام الشورى في الإسلام ففيه تواص بالخير. ويرد عليه مرسي قائلا إن نستلة لم ينتصر في الحرب العالمية الثانية لأنه ديكتاتور ولم تنهزم فرنسا لأنها دولة ديمقراطية لا يجوز أن يزن المرأة العالم بميزان قوته العسكرية فالعقل هو الميزان بالنسبة للأفراد ولا يمكن أن يعيش بدون حرية كما أن الحضارة لا يمكن أن تتقوى أيضا بغير حرية ولذا فإنه يفضل الحكم الديمقراطي لشعبنا العربي الواعي المالك لإرادته والمكافح في سبيل الحرية والرفاهية.

وفي المقابل يرى عربي أن الحكم النيابي قد فشل في البلاد العربية لأنه لم يطبق بشكل صحيح وهذه الحكومات النيابية هي حكومات مؤلفة من حفنة من الإقطاعيين والوصوليين الذين جاءوا إلى الحكم بمساعدة المستعمر ولبسوا ثوب الوطنية ليضللوا الأمة بأن بلادهم مستقلة وأن حكوماتهم وطنية حرة. غير أن فتى الحي يعارضه قائلا أن فشل الحكم النيابي سببه وجود مركب النقص في أفراد الحكومة موضحا أنه لا يقر إعطاء الحاكم سلطة مطلقة في ظروف الحكم لأنها تبث فيه روح الاستبداد والتحكم في الأمة مستشهدا بقول الرئيس جمال عبد الناصر: " إن وضع الثقة العمياء في السلطان مما يعلمه الاستبداد". ويؤكد الكاتب على أن الديكتاتورية في ألمانيا وإيطاليا هي المسؤولة عن مصير شعوبها وأن شخصية المستبد العادل أصبحت خرافة لا تصدق وأن المستعمر لا يرتعد من الكلمة ولا يخشى إلا من القوة.

وفي إطار مواكبتها للاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح أطلقت مجلة صوت البحرين في يونيو 1954 تحذيرا واضحا من مغبة تفاقم الأوضاع ودعت إلى تفادي الخلافات الطائفية. ونادت بالاتحاد من أجل إصلاح الأوضاع القائمة في البلاد وطرحت حزمة من المطالب الشعبية بعنوان مطالبنا العادلة وتتمثل هذه المطالب الإصلاحية في الآتي:

  1. سن قانون للمحاكم مدني و جنائي واطلاع الرأي العام عليه.
  2. تأليف مجلس للمعارف من عشرة أعضاء ستة ينتخبهم الشعب وأربعة أعينهم السلطة التنفيذية للإشراف على سير المعارف وتعيين المناهج والميزانية.
  3. تأليف مجلس للصحة للإشراف على سير المستشفيات والصحة العامة وتصحيح الأوضاع المقلوبة فيها.
  4. تأسيس نقابة للعمال لحماية حقوقهم.
  5. تأسيس مجلس استشاري من 14 عضوا وعشرة ينتخبهم الشعب وأربعة تعينهم السلطة التنفيذية.

وأهابت المجال بالمسؤولين أن ينظروا في هذه المطالب بعين العناية وينفذوها.

ومع أن المطالب الشعبية المذكورة قد قابلتها بعض الفئات بالشك وسوء الظن في حامليها، وفسرت بأنها موجهة ضد فرد أو جهة مسؤولة" إلا أن الأحداث المواكبة لها، نجحت في تجسيد الوحدة الوطنية بين أفراد الشعب، وإلحاحه في طلب العدالة والمساواة الفعلية أمام القانون، وفي غمرة هذه الأجواء، أصدر الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، حاكم البلاد، بيانه التاريخي بسن قانون للبلاد، وجلب قضاة أكفياء، وإعادة تنظيم المحاكم على أسس قانونية عادلة". فكان لهذا القرار صدى إيجابي في المجتمع البحريني، لكن عاقل ذكر الحكم بأن الشعب ما يزال يتساءل عن مصير مطالبه الأساسية الأخرى. ويتبين مما سبق أن الأطر المرجعية التي استند إليها الخطاب الإصلاحي في تدعيم مقولاته ومفاهيمه تتمثل على الصعيد العربي في ثورة 23 يوليو 1952 حيث شكل نجاحها ملهماً أساسياً للمطالبة بالحرية والمساواة والديموقراطية في البحرين. أما على الصعيد الدولي فقد شكلت الثورة الفرنسية حافزاً لنشاط الجماعات الإصلاحية في جزيرة البحرين، في حين مثلت الأنظمة الدكتاتورية في ألمانيا وإيطاليا تحذيراً من الأخطار المحدقة بالبلاد في حالة عدم اتباع النهج الإصلاحي - التشاوري في التعامل مع المطالب الشعبية، ومثلت دول على غرار هولندا والسويد، نماذج ناجحة للحكم النيابي.

رابعا: القوى الفاعلة الداخلية والخارجية وموقفها من الإصلاح

تباينت ردود الأفعال الداخلية والخارجية (العربية والعالمية) حول المطالب المنشورة في المجلة بإصلاح الحكم وتحسين أوضاع المواطنين، ويمكن تقسيمها إلى أربع فئات أساسية، هي:

  1. القوى الداخلية الداعمة للإصلاح: وتتمثل في زعماء وأعضاء هيئة الاتحاد الوطني، والناس البسطاء والأدباء والمثقفين، والجماعات المساندة للأفكار العروبية والوحدوية، والقوى الإصلاحية. كما تشكل البيئة الاجتماعية المواتية (المعلم، والبيئة المدرسية، والمجتمع) دعامة للإصلاح المأمول.
  2. القوى الداخلية المناوئة للإصلاح: وتتمثل في المستشار بلجريف رمز الاستعمار البريطاني، وأعوانه وركائزه من أعداء الشعب، وأفراد الطبقة الإقطاعية والرأسمالية والطائفيين، وأعداء العروبة والإسلام والانتهازيين الذين ينشرون مبادئهم الهدامة، ولا يقيمون وزنا لدين أو قومية لأجل المال وثالوث التخلف الجهل والفقر والمرض، وأدوات الاستعمار الفكري.
  3. القوى التاريخية الخارجية المؤيدة للإصلاح: وتتمثل في الحركة القومية العربية، ممثلةً في قادة ثورة يوليو 1952، والشرائح الشعبية المناصرة للزعيم جمال عبد الناصر، واليقظة الشعبية المنظمة لدى الجماهير العربية ضد الحكم المزدوج الاستعمار والحكم الأوتوقراطي الرجعي وكذلك الأقلام الوحدوية والعروبية المطالبة بالإصلاح الشامل ووحدة الشعوب العربية، والتجارب الملهمة للشعوب العربية كثورة الزنج في البصرة في القرن الرابع الهجري كأول محاولة اجتماعية للقضاء على نظام الاسترقاق، وأول ثورة للجماهير الإسلامية ضد الإقطاع والتجارب الوحدوية الواعدة، كتجربة اتحاد إمارات الخليج العربي، الذي كان يفترض أن يضم الكويت والبحرين ومسقط ودبي والشارقة وقطر والإمارات الصغيرة، ويشكل كياناً سياسياً قوياً ثابتاً، يُصبح عضواً في الجامعة العربية.
  4. القوى التاريخية الخارجية المعادية للإصلاح: وتتمثل في السيادة الأجنبية، والحكومات الفاسدة التي لا تهمها رفاهية شعوبها. وكذلك في السياسة البريطانية الاستعمارية التي تستهدف حماية التجارة البريطانية، واستثمار وتأمين رؤوس الأموال والسياسة الأمريكية التي تقدم الإعانات المالية للحكومات الفاسدة. وكذلك أعداء الوحدة العربية، والخطر الشيوعي الذي يستغل تشريد الفلسطينيين من ديارهم للتوغل في الأقطار العربية وإيران التي تعاني من الحصار الاقتصادي لبريطانيا التي منعت الدول من شراء الزيت الإيراني ومن ثم تدفعها الدول الديموقراطية إلى أحضان الشيوعية، وتدفعها روسيا للمطالبة بالسيادة على البحرين، مع أن البحرين هي جزء من الوطن العربي ولم تكن يوماً تحت الحكم الفارسي.

وهناك إسرائيل التي اغتصبت أرض فلسطين، وتسعى لبسط السيطرة اليهودية على كامل الأرض العربية، غير أن النظام، ووضوح الهدف وامتلاك النفس والجرأة في التفكير والعمل كفيلة بدحر مدنية اليهود. وكذلك جامعة الدول العربية التي لم تبد موقفاً تضامنياً مع مطالب الإصلاح والحرية والمساواة في الدول العربية، حيث عبر محمد علي الطاهر عن ذلك قائلاً: "لم نسمع عن الجامعة المنسوبة إلى الدول العربية عملاً حازماً جدياً مخلصاً غير التصريحات التي أفقدتنا فلسطين".

ومما تقدم يتضح أن قوى الإصلاح في جزيرة البحرين قد استلهمت أفكار الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية من الثورات العربية التاريخية، كثورة الزنج في القرن الرابع الهجري، وتشربت أفكار الوحدة العربية من بوادر قيام اتحاد إمارات الخليج العربي في تلك الفترة، وحظيت بدعم الأصوات الوطنية المدعومة بأفكار ومبادئ الثورة المصرية الظافرة في عام 1952. كما أن تضارب نشاط القوى الداخلية المؤيدة للإصلاح مع نشاط القوى الخارجية المناوئة للإصلاح والوحدة العربية، ممثلة في الاستعمار البريطاني والأمريكي، وإسرائيل والحركة الصهيونية، التي كانت تسعى لبسط نفوذها على المنطقة العربية، قد ترك بصماته على مصير الحركة الإصلاحية ومآلاتها في البحرين.

فقد أدت تصفية هيئة الاتحاد الوطني واعتقال زعمائها ومحاكمتهم بدعم مستتر من قوى الاستعمار البريطاني المحلي إلى ظهور تيارات يسارية سرية تهدف إلى إدخال إصلاحات على أسس ديموقراطية إلى البلاد. كما دشن الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج العربي والمؤدي إلى إعلان استقلال البحرين في 14 أغسطس 1971 في عهد الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة مرحلة جديدة تمثلت في إنهاء اتفاقيات الحماية البريطانية، ووضع مشروع دستور حديث متطور للبلاد" وافتتاح المجلس الوطني في عام 1973، وإنشاء مجلس الشورى في عام 1992.

وجاء وصول الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة إلى سدة الحكم في مارس عام 1999 خلفاً لوالده تدشيناً لمرحلة سياسية جديدة، بدأت بإلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، والإفراج عن الموقوفين السياسيين، وإقرار مشروع الميثاق الوطني بإجماع شعبي عارم، وتحوّل دولة البحرين إلى الملكية الدستورية، وتطوير نظام الحكم بالأخذ بنظام المجلسين مجلس منتخب من قبل المواطنين، يتولى المهام التشريعية ومجلس آخر يعينه الملك لتقديم المشورة إلى الحكومة. فما حدث لم يكن مجرد تغيير سياسي، وإنما هو تحوّل تام في طبيعة العمل السياسي والاقتصادي على المستويين الداخلي والخارجي، وإصلاح شامل على الصعيد السياسي المحلي.

مصادر

  1. ^ "الخطاب الإصلاحي في البحرين في منتصف القرن العشرين (1950 - 1954)". مؤرشف من الأصل في 2024-12-03.
  2. ^ مي محمد آل خليفة (1998). سبزآباد ورجال الدولة البهية: قصة السيطرة البريطانية على الخليج العربي. الموسسة العربية للدراسات والنشر.
  3. ^ "التطوير الإدارى والوعى الثقافى والإصلاح السياسى في البحرين إبان حكم الشيخ عيسى بن على آل خليفة : دراسة تحليلية وثائقية سياسية للفترة ما بين عامى 1900 م - 1932 م".
  4. ^ "الدور البريطاني من «الحماية» إلى «الإصلاحات الإدارية»". مؤرشف من الأصل في 2020-02-25.
  5. ^ مي محمد آل خليفة (1999). مائة عام من التعليم النظامي في البحرين: السنوات الأولى للتأسيس. الموسسة العربية للدراسات والنشر.
  6. ^ "مجلة صوت البحرين وخطاب الخمسينيات". مؤرشف من الأصل في 2024-12-02.